في احتفالية الجامعة الأمريكية

في احتفالية الجامعة الأمريكية





الموضوع

( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب )

 

المسافة تبدو شاسعة جدا بين ” سمو ” هذا الاقتباس القرآني الجليل ، وبين  ” واقعية ” التعبير الشعبي : ( ساقط من قعر القفة ) ، وهو مثل يضرب لقليلي الحظ ، أو ضعيفي القدرة على النفاذ في حومة الزحام ، مما يؤدي إلى نسيانهم أو تجاهلهم ، لقد تجولت خواطري بين واحد من هذين العنوانين مدخلا لهذا التوصيف الموجز لأمسية  ” نادرة ” عايشتها في هذا الشهر – رمضان – الذي اكتسب طابعا مهرجانيا من وجهة نظر الثقافة ، ومن هذا المدخل تسللت إليّ نسائمه .

 

على الرغم من المهتمين بشأن ” العتبات ” وأهميتها في تفسير وتأويل العمل الفني، وقولهم إن العنوان الرئيسي هو آخر ما يُكتب ، وأول ما يتلقى ، فإنني – على نقيض ذلك – أجد العنوان حاضرا في أفق الخاطر قبل المحتوى إجمالا ، وقبل التفاصيل التي سيتشقق عنها بالضرورة . العنوان – عندي – مفتاح يشكل كل ما يأتي بعده ، ويقاس صفاء المعنى واتساقه بهذه العلاقة التطابقية بين العنوان ، وما تحت العنوان .

 

لقد استحضرت كلمة يوسف – عليه السلام – حين عبر عن براءته ، والتزامه بهذا الاقتباس القرآني الذي تصدر كلمتي ، وإن كنت لا أعيد الضمير إلى الذات الإلهية ، فهي تعلم السر وأخفى دون أن أعلن هذا ، ولكني قصدت إبراز ما حرصت على تبيانه ، وحرص المتحدثون عني – شكر الله لهم ، وجزاهم خيرا – وهو أنني أملك وجها واحداً هو الثقافة ، وهذا الوجه معلن في كل ما كتبت مهما تعددت مساراته ، فلم أخن الثقافة ، ولم أخرج على مطالبها ، ولم أنافس شعورا آخر في الوفاء لها ، والمثول في محرابها ، وهذا ما رميت إليه من اقتباس الآية الكريمة .

أما العنوان الآخر ( الشعبي ) ” ساقط من قعر القفة ” فإنه نوع من الشغب الثقافي أيضا بالانفتاح على المأثور الشعبي وهو مأثور مستقر في وجداني موجه لأفكاري التي قد يجملها توجهي العام في الكتابة وهو إيثار ” القارئ العادي ” بالكتابة إليه ومخاطبته ، والسعي إلى الالتقاء معه عبر مفاهيمه ، ومأثوراته ، وحتى أمانيه وأحلامه مما يستلزم تجنب ” التنطع ” النقدي ما أمكن ، والتخفف من استخدام المصطلحات قدر المستطاع دون الهبوط إلى عمومية الدلالة وتستطيح الأفكار . على أن عنوان ” ساقط من قعر القفة ” يتجاوب – أو قد .. – مع عنوان سابق لأمسية سيأتي ذكرها ، وكانت بعنوان يستدعي هذا المستوى الدلالي الشعبي من منظور آخر . 

 

أما المثير المباشر لهذه الكلمة فهو تلك الاحتفالية ” الأمسية ” الجميلة التي أقامتها الهيئة العامة لقصور الثقافة بمقهى نجيب محفوظ ضمن فعاليات أمسيات شهر رمضان المقامة بحديقة الفسطاط بمصر القديمة ، وكان عنوانها المعلن ( في محبة الدكتور محمد حسن عبدالله ) ، وتحدث فيها ثلاثة من المحبين : الأستاذ الدكتور حسين حمودة – الأستاذ بآداب القاهرة ، والناقد النافذ المدقق شعبان يوسف مؤسس ورشة الزيتون الثقافية الشهيرة ، والدكتورة هويدا صالح الناقدة والأديبة ، وقد ترفقوا بي كثيرا ، وقسوا أحيانا ، ولم يقولوا إلا حقا في كل الأحوال . كان ذلك مساء الخميس 16 يونيه 2016 ( 11 من رمضان 1437 ) وكان قد مضى على احتفالية مشابهة أقامتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة ( 30 مارس 2016 ) زمن يسير ، وكان تقارب الاحتفاليتين مثار تأمل من جانبي ، فلماذا هذه الحفاوة ( المتأخرة ) وهل يعني هذا اقتراب الرحيل !!؟ فإن كان الأمر كذلك فربما حانت الفرصة لإعادة طبع ما أحرص عليه من كتبي الستين .

 

مهما يكن من أمر هذه الأمسية الجميلة الذي دعاني إليها الأستاذ أشرف أبو جليل ، وحضرها الأستاذ مجدي شلبي نائب رئيس هيئة قصور الثقافة ، وتسلمت من يده ( ميدالية وزارة الثقافة الذهبية ) فإن حديث ثلاثة من النقاد عن جهدي الثقافي والعلمي كان كاشفا لجوانب في نفسي أعيشها دون أن أمعن التفكير فيها ، فقد أشار الأستاذ شعبان يوسف إلى مشاركاتي ومشاكساتي أحيانا في ورشة الزيتون ، وعد هذه المشاكسات بمثابة استقلال الرأي النقدي ، وعدم الانسياق وراء فكر أو منهج سائد أو رائج في مرحلة ما . وذكرته بدوري بأنني عرضت لأول مرة – في ملتقى عام – لمنهج نقدي اكتشفته بجهدي العلمي ، واخترت له مصطلح  : ” النقد الحضاري ” وهو مصطلح جديد تماما ، ولم يعرض له ستانلي هايمن في كتابه الشهير ” النقد الأدبي ومدارسه الحديثة ” كما لم يتطرق إليه ناقد غربي أو شرقي ، أو مصري في سعيهم نحو الحداثة النقدية ، وما تمنح أو تغري به من توليدات مقبولة أحيانا ، ومعقدة في أحايين كثيرة ، وسخيفة غير مثمرة في ما وراء ذلك ، ولكن وقبل أن أتطرق إلى التفصيل والتعليل ، وتحديد إطار المصطلح الجديد ( النقد الحضاري ) قاطعني شاب من بين جمهور الورشة ، كان يُعد الدكتوراه وقال دون استئذان : هذا هو النقد الثقافي نفسه !! ولن تأتي بجديد !! لقد ساءتني المقاطعة المبكرة ، وليس المعارضة في ذاتها ، وساءني أكثر أنه بعد أن أطلق عبارته – الدخانية – المفسدة نهض منصرفا ، وكأنه قال فصل الخطاب في الموضوع الذي لم يستمع إلى جملة كاملة عنه ، وانصرف عن الجلسة ، ومن المؤكد أن هذه الحركة المبكرة – لا أقول – إنها خلخلت يقيني بما بذلت من جهد علمي يحاول جلاء المصطلح الجديد ، وإنما تسلل عبرها قلق قد يرى أن جميع الجالسين حول المائدة ربما يحملون هذه النظرة ذاتها ، وأن هذا سيحتاج مني جهداً إضافيا لم أكن مستعدا له نفسيا ، وروحيا ، من ثم فسيكون كل ما سأقول أشبه بالضرب في حديد بارد ، يترك أثرا سطحيا وقد لا يترك أثرا بالمرة ، وهذا شعور محبط لا شك إذا تسلل إلى فكر محاضر يعرض لموضوع يتحمس له كثيرا ، ويعتقد بأنه يفتح به طريقا جديدة للتحليل النقدي ، ويعطي النقد الأدبي ” المصري ” – بصفة خاصة – مذاقا ذاتيا مميزا ، ولونا له حضوره الذي لا ينافس إذا ما أحسن استخدامه في مجالات التطبيق .

 

ما أعنيه بالنقد الحضاري يختلف تماما عن النقد الثقافي إجراءً ووسائل وأهدافاً . وكان قطع الطريق على كلمتي مدخلا لإفساد العرض الذي أعددته ، ولعله جعل نفسي تنقبض عن التنقيب وراء ما أعنيه ، ومن المؤكد أنه يختلف أيضا ، بل يختلف كثيرا عما قصد إليه الدكتور عبد القادر القط في كتابه عن ” الشعر الوجداني ” الذي أبرز انعكاس التطور الحضاري على بعض الصور والأوصاف التي استخدمها الشعراء بين العصرين الأموي والعباسي ، وليس هذا الموضع المناسب لشرح ما أعنيه بالنقد الحضاري . لقد مضى على هذا الحادث الثقافي نحو خمسة عشر عاما ، وفي العام الآتي يقام في مدينة عمان ( الأردن ) مؤتمر عن النقد الحضاري !!

أما هذه المقالة / العمود القديمة فإنها ليست متوفرة بين يدي راهنا ، وإن وجدت تلخيصا لها كتبته منذ عام 2010 ، ولا أذكر مناسبته ، ونص هذا التلخيص كالآتي :

النقد الحضاري

[ لاشيء يتأسس على لا شيء ، كما أن موقع التبعية والترديد لا يليق بعد قرنين كاملين بأمة ذات حضارة ، تتطلع إلى استعادة ذاتها . النقد الحضاري شاغلي منذ عشرة أعوام ، لا يجاري النقد الثقافي ولكن يتجاوزه . وهو مطلب للحفاظ على قيم المجتمعات التي تملك طبقات من الوجود التاريخي ، تتنفس – لا محالة – في تجليات إبداعها ، وليس هذا تأكيدا لتمازج عنصري الزمان والمكان وحسب ، وإنما لتأكيد كينونة الإنسان ، في المكان ، وقدرته على تلوين الأزمنة ، وهذا في ذاته نوع من مواجهة ادعاءات العولمة ومزاعمها في هيمنة تقوية أواصر التوحد بين أقطار العالم ، وليس في استطاعتها أن تبين كيف يتحقق التكافؤ بين من يملك هيمنة أن يعطى ، ومن لا يستطيع إلا أن يأخذ ؟

إن شرط أصالة الموهبة وشرط تقبلها هو تعبيرها عن توطنها ( وليس مجتمعها ) ، وهي تكتسب أحقيتها بأن تكون فنا حين تتجلى فيها الأطر الموروثة نافذة إلى علائقيات العصر الراهن ، كما أن من حقها أن تكون اقتراحا إلى المستقبل . على أن القيمة المستمدة من جانبين : الجميل والمفيد خطوة ثالثة هي بمثابة قمة الهرم المشكل للمصطلح .

يمكن أن نجمل أركان النقد الحضاري في ثلاث خطوات ، يوضحها هذا الشكل .

التجمير

 

                           

مفردات التوطين                   مخايلات التجلي العلائقي

وكل خطوة من هذه الخطوات الثلاث ( المشكلة للهرم ) يتولد لكل منها هرم خاص ثلاثي الأبعاد يحتاج إلى شيء من التفصيل ] .

 

وأضيف إلى ما تقدم أن عناصر النقد الحضاري تتجلى في :

  • التناصات ، والمرجعية الزمنية التي تعود إليها ، والدلالة الروحية والثقافية التي تعنيها في زمانها ، وفي زماننا .
  • تداعيات اللاشعور في مجال الكتابة الأدبية ( الشعر أو الرواية ) بصفة خاصة ، وذلك باستدعاء ما تستجلبه من عمق الذاكرة بأن تستحضره إلى الراهن في السياق الأدبي ، بكل ما يدل عليه .
  • المفردات ، والجمل ، والتعبيرات المستخدمة التي قد تتمرد على اللغة العربية بطابعها المأثور لتستجلب عبارات عامية بعيدة الغور في اللهجة المحكية ، وأحيانا عديمة المعنى ، ومع ذلك فإن لها وظيفة ماثلة في الوجدان المتوارث عبر الأزمنة .
  • لغة الجسد بكل ما تعنيه من تميز إقليمي لا تتشابه فيه طرائق شعب في التعبير عن ذاته في مواقف مختلفة مع شعب آخر ، وهذا ما يؤكد خصوصيته الحضارية في هذا الجانب .
  • رؤية العالم : وهذا الركن ( العنصر ) مؤسس على أن أية حضارة غابرة ، أو قائمة ، أو قادمة ، إنما تتأسس على تقديم رؤيتها للعالم ، للكون ، لسلطة الأخلاق ، لنسق الحياة الإنسانية ، وعلاقات الطبقات أو البشر .. إلخ ، فهذه محددات حضارية ينبغي أن تكون حاضرة في واجهة الوعي النقدي لتدل على تفاعل حضاري حقيقي يأخذ به المنتج موقعه في الإبداع الإنساني .

هذا بعض مما يتسع له المجال عن أزمة ” النقد الحضاري ” في ندوة الزيتون ، وما قبلها وما بعدها ، ولعل هذه الذكرى تثير الرغبة والعزيمة في أن أعود إلى هذا الموضوع مجدداً .  

  

أما الدكتور حسين حمودة الصديق الدمث الرقيق ، ورفيق الإعجاب اللامتناهي بنجيب محفوظ فإنه استعرض عددا من المؤلفات بخاصة : ” الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ ” ، وكان شعبان يوسف قد سبق إلى إثارة موضوع هذا الكتاب من زاوية اختلاف المناهج والرؤى حول أدب نجيب محفوظ ، وأشار إلى المكاتبات التي كانت بيني وبين عملاق الرواية العربية ، ومجالسنا حوله في الإسكندرية إبان كل صيف ، ويجدر أن أضيف – بصدد كتاب ” الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ ” أن هذا الطرح الخاص المنفرد الذي قمت به في تشريح أعمال نجيب محفوظ ، وما أثارت من أفكار وقيم وما بنت من شخصيات ، وما استخدمت من ألفاظ وعبارات ذات جذور إسلامية .. هذا المنحى ، وعلى الرغم من مرور من يقارب نصف قرن على صدور الطبعة الأولى من الكتاب ( 1972 ) ، ومرور خمسة عشر عاما على صدور الطبعة الثالثة ( 2001 ) ، فإن أحداً من المهتمين بنجيب محفوظ ، أو بتاريخ الرواية بوجه عام لم يحاول الاقتراب من هذا المنهج الذي ارتأيته ولو بالرد عليه ، وتفنيده إن كان لا يجد فيه ما يمكن أن يضيف !! ولعل هذا أن يدل على فاعلية حركة النقد الأدبي العربي على المستويات العامة والأكاديمية في هذه المرحلة . وأضاف الدكتور حمودة إشارات واعية نافذة في كتاب ” الحب في التراث العربي ” ، وكتاب ” الواقعية في الرواية العربية ” ، وكتاب ” المسرح المحكي ” ، وصلة هذا الأخير بالمحور التراثي الذي شغل مساحة لا بأس بها بين مسارات المنتج الثقافي ، كما أشارت عريفة الأمسية الدكتورة هويدا صالح إلى المحور الخليجي في مؤلفاتي التي بلغت ثمانية عشر كتابا عن الخليج عامة والمسرح والصحافة والأدب والفكر في الكويت خاصة ، كما أشارت إلى الجانب الإبداعي وما صنعت من روايات ومجموعات قصة قصيرة ، ومسرحية واحدة شعرية عنوانها : ” حادثة خط الاستواء ” التي تناصت مع أسطورة حي بن يقظان الشهيرة في التراث العربي ، فضلا عن روايتين ، كتبت أولهما وأنا طالب في السنة النهائية بكلية دار العلوم عام (1961 ) ، وكانت بعنوان : ” أنفاس الصباح ” وهي صدى لما كتبه الجبرتي عن الحملة الفرنسية على مصر ليس في عواصمها ومدنها الكبيرة فقط ، وإنما أيضا – في قرى الريف ، وكفور الدلتا ، ونجوع الصعيد ، بما يؤكد على شمول المقاومة لكل أطراف الأرض المصرية .

أما الرواية الأخرى – وقد فازت بالجائزة الأولى للرواية المصرية عام ( 1963 ) ، فهي بعنوان : ” الشعلة وصحراء الجليد ” وتصور الحياة النفسية والعاطفية بخاصة التي تتملك طلبة وطالبات الليسانس وهم على وشك مغادرة معهدهم الذي يكتشفون مؤخرا كم هو عزيز عليهم ، كم أن فراقه قاس على نفوسهم ، كم أن مشاعرهم تتوق إلى الاحتفاظ به في وجدانهم عبر ارتباطات الحب والزواج !!

 

           من بين أسئلة الحاضرين سؤال محرج يقول لي : لماذا لا تشارك في أنشطة المجلس الأعلى للثقافة ؟ وكان جوابي المتوقع هو : اسأل المجلس الأعلى للثقافة إن كان عنده جواب !! على أنني عقب عودتي من الكويت بعد العمل بجامعتها عشرين عاما وجدت في الهيئة العامة لقصور الثقافة على تعدد رؤسائها ورؤساء أجهزتها الثقافية الاستقبال المقدر والمرحب بالمشاركة ، ولابد أن أشير إلى الأستاذ المبدع المثقف محمد السيد عيد دون أن أغمط آخرين حقهم في الفضل ، وحسن اللقاء ، وقد أسند إليّ في فترة سابقة رئاسة تحرير دورية ” كتابات نقدية ” ولمدة خمس سنوات حرصت فيها أن أعطي الأفضلية لإنتاج الشباب تقديرا لمحاولاتهم ، وقد أغضب هذا مني ( العواجيز ) إذ كيف أتنكر لرفاق الرحلة؟! ولم يكن تنكرا ، وإنما كان وزنا لمطالب المستقبل ونبوءاته التي تستحق أن نتأملها ونطيل التفكير فيها .

 

أما سؤال الختام فكان عن ما يمكن تسميته : ” مشروعي الثقافي ” أو : ” مشروعي النقدي ” ، وقد ترددت أمام هذا السؤال مع أنه محتمل ، وربما متكرر ، ولكنني كنت أتجنب الإجابة لسببين : فلست أرى أنني أملك مشروعا ثقافيا أو نقديا ، إذا كان يراد من “المشروع ” الخطة النظرية المؤطرة المسبقة التي يتحول الجهد العملي بعدها إلى مجرد ” ملء فراغ ” أو تنفيذ مشروع كالمخططات التي تسبق إنشاء مدينة أو عمارة أو حديقة .. إلخ . ولا أظن أن علاقة المثقف بالعمل الثقافي يمكن أن تمضي في هذا النسق الذي يناسب الوظائف العملية ، وليس الجهد الفكري والنظري الذي يتوالد ، ويتناضح ، ويتفاعل عبر وقائع وملابسات ليس من اليسير التنبؤ بها .

السبب الآخر أن ما يمكن أن يسمى ” مشروعي الثقافي ” أو النقدي ، ليس شرطا أن يكون ايجابيا أو صالحا لأن يكون مسارا لغيري ، لأن العقول – بطبيعتها – تتفاوت ، والميول تختلف ، والانجذاب نحو فن بعينه ، أو زمن بعينه يختلف ما بين مثقف ، أو مؤلف وآخر وإلا ما كان هذا التباين بين حقول المعرفة ، ومناهج التحليل ، والتطلع إلى تحقيق الأهداف .

 

إن ما يمكن أن يطلق عليه – بكثير من التسامح – مشروعي الثقافي ، لا أظن انه أسفر عن نفسه بقدر نسبي من الوضوح إلا بعد صدور كتابي : ” الحب في التراث العربي ” ( 1981 ) بما يعني أن بينه وبين المحاولة الأولى ( كتاب بائع الملوك – عن العز بن عبد السلام ) وقد صدر عام ( 1962 ) أي أن هناك عشرين عاما ، ونحو عشرين كتابا بين المحاولة المبكرة ، والتطلع إلى نوع من التخطيط المبكر لمسارات بحثية يمكن أن تؤدي إلى شيء من التكامل أو التقارب يمكن أن يوصف بأنه ” مشروع ثقافي أو نقدي ” .

 

وهنا أذكر أمرين : فقد تصادف أن لقيت محمد الخانجي شيخ الناشرين العرب في الكويت ، وكنت قد انتهيت توا من نشر كتابي الثاني عشر ، فقلت للناشر العتيق : أفهم أن أجد صعوبة في نشر أول مؤلفاتي ، حيث لا يعرفني أحد ، وقد يستمر الأمر إلى المؤلف الثاني أو الخامس أو السابع !! أما الثاني عشر فهذا كثير !! قال الناشر العتيق ، صاحب الخبرة التي لا تجارى : أنت يا دكتور ( طبعت ) ولم ( تنشر ) ، وبينهما فروق عديدة ، أفاض الرجل حينها في ذكرها ، واذكر من بينها أن يعمد المؤلف إلى اختيار ناشر مشهود له بالقدرة على تسويق بضاعته ، ثم لا يغيره بناشر آخر ، حتى تتضام مؤلفاته في ( فاترينة ) واحدة ، مما يبرز حجم نشاطه وتنوع جهوده . وأعترف هنا بأنني حاولت جاهدا الالتزام بمبدأ وحدة الناشر ، ولكنني لم أنجح في أكثر الأحيان .

الأمر الآخر :  أنني لاحظت أن عددا غير قليل من مؤلفات الكبيرين : ( طه حسين – عباس محمود العقاد ) تقوم مادتها على مقالات مجموعة ، بينها رابط موضوعي ، يجعلها مطلوبة لقارئ معين ، وهذا أمر احتاج إلى زمن حتى أصل إلى اكتشافه بدرجة واضحة جعلتني – فيما بعد – أحرص على أن تكون دراساتي المختصرة ( المقالات ) تسلك مسارات محددة تتيح لها أن تجتمع تحت عنوان واحد ، يجتذب قارئا بعينه ، ولا يتفرق الجهد بدداً بالجمع بين موضوعات هم أبناء علات ، وإن كانوا لأب واحد .

هل يصلح ما ذكرته آنفا مصورا بصدق – دون مبالغة – بما يمكن أن يُعد مشروعا ثقافيا ، أو نقديا ؟!

ربما عكست السيرة الذاتية الخاصة بي شيئا من التفصيل عن هذه المسارات التي حرصت على تغذيتها عبر مراحل العمر الطويل ، والإنتاج الذي يمكن ( بالعدد ) أن يدل على شيء من الغزارة أو الخصوبة ، أو البحث عن المجهول .. سمه ما تشاء !!

 

هذا وصف موجز – رغم الإطالة النسبية – لأمسية حميمة تحت عنوان : ” في محبة …. ” – وهذه المحبة مصطلح صوفي يتجاوز مطالب النقد ، وإطار وظيفة الأستاذ الجامعي إلى ما هو أبقى وأقدر على كشف الطبائع والأخلاق الإنسانية .

 

أما الاقتباس القرآني في عنوان هذه الكلمة فقد أردت به أن ” الثقافة ” جهد ذاتي يحتاج إلى إخلاص ” جواني ” وليس إلى ” بربجاندا ” أو جوائز أو مؤتمرات تومض فيها الكاميرات ، وتغيب فيها الحقائق .

 

شكرا لهيئة قصور الثقافة التي فجرت هذا الينبوع الذاتي الكامن في الوجدان ربما منذ عشرات السنين .