المقالة
الاستعمار العربي بين التعبير والتشكيل
الملخص
” الاستعمار العربي “ عنوان ديوان الشاعر الشعبي عبد الرحمن الأبنودي الذي يدور حول كارثة اجتياح العراق للكويت. وقد آثرنا دراسة هذا الديوان دراسة نقدية لسببين: أنه الأقوى تعبيراً عن المشاعر المصرية العامة تجاه الكارثة وأنه كتب بالعامية، ومع هذا يعكس قيماً فنية راقية، ولهذا نناقشه بمتطلبات الشعر، دون تسامح، تحت إغراء العامية.
قدم الشاعر لديوانه يبرئ نفسه من اتهام محتمل، وهذه الدراسة لا تتهمه، كما لا تدافع عنه، إن الجوانب الفنية وحدها هي موضوع الاهتمام. وقد أثيرت قضايا جادة من خلال صياغة الديوان وملابساته أولها: هل كانت الاستجابة المباشرة السريعة للحدث مؤثرا سلبيا في بناء العمل الفني، أو أن الشاعر استطاع أن يتجاوز ذلك؟ وثانيها: أن الشاعر أدخل تعديلات على ديوانه، فأطال وفرع، وعدل، استجابة لإلقائه في ندوات عقدت لسماعه، فإلى أي مدى اثر هذا الأسلوب في تطوير شكل القصائد، وتوجيه أفكارها؟ وثالثها: يتجه إلى الشكل الفني، فهل هو ديوان من قصائد؟ أو قصيدة واحدة ممتدة، أو قصة شعرية أو مسرحية؟ إنه فيما نرى عمل حكائي ملحمي مقسم إلى ستة مشاهد أساسية.
إن عناصر الشعبية في هذا العمل الشعري ليست اللهجة بل طريقة استخدامها، يضاف إلى هذا سيطرة الراوي على طريقة التقديم، وطريقة الحكاء الشعبي في رواية الأحداث والتعليق عليها. كما تؤدي الصور الشعرية دورا بنائيا، هي بالعامية لهجة، وعامية تصويرا، ولكنها انتقيت لتعبر عن شعور خاص، مثقف. على أننا نناقش هذه الصور من زاويتي: علاقتها بتجربة الأبنودي الخاصة، ومستوى التكامل بين هذه الصور في إطار موضوع القصيدة. ويترافق دور الصور في إطار موضوع القصيدة.
ويترافق دور الصور مع دور الحوار، في تخلله للسرد، وقد ظهر بطرق مختلفة. فهناك حوار منصوص عليه، أو على قائله، وحوار يكتشف طرفاه بتأمل السياق، وهناك أيضا حوار المواقف أو الحالات، وأخيرا حوار الكورس الماثل في قصيدتين ختاميتين، في الأولى: الشاعر يناجي العنكبوت، وفي الأخرى يتوجه بيأسه وآلامه إلى أصدقائه .. إنهما بمثابة نذير، وصرخة احتجاج، ودعوة إلى رفض الاستسلام للكارثة، وكأنها قدر لا مهرب منه.
(1)
” الاستعمار العربي ” هو العنوان المستفز الذي اختاره الشاعر الشعبي عبد الرحمن الأبنودي ، لديوانه ( الذي نتوقف مؤقتا عن وصفه ) ، وقد نشره المركز الإعلامي الكويتي بالقاهرة (1991م ) تتصدره مقدمة كتبها الشاعر ، يقطع بها الطريق على التهمة الجاهزة ، بدءاً من عنوان الديوان ، ومضمونه أو موقف الشاعر تجاه ما جرى بين الكويت والعراق ، ثم دار النشر التي عنيت بالديوان وطبعته . وإذا كان الشاعر – في مقابل أهل الاتهام المصلت سلفا ، يرى أن ديوانه ” سوف يرضي جيوش الشرفاء من أمتنا ، الذين لم تلوث يدهم ولا ضمائرهم حسنات البيع والشراء في السوق الوطنية لهموم الأمة ” ، فإننا من منطلق نقدي موضوعي لم نفكر في توجيه التهمة أو التشكيك في دوافع الشاعر ، كما لن نشغل أنفسنا بالدفاع عنه ، أو عن الموقف الذي يعلنه في هذا الديوان بلغة صريحة ، وصور مؤلمة جريحة . إننا سنتعامل مع هذا الديوان على أنه ” شخصية ” فنية قائمة بذاتها ، مستقلة حتى عن خالقها ، بل مستقلة أيضا عن ” الحدث ” الواقعي المباشر الذي قام بدور المثير ، أو المحرض على الكتابة . إننا لن نبحث في هذا ” النص ” عن أسانيد لدعم الموقف مما جرى على أرض الواقع المؤلم ، ولن نفتش عن دوافع الانفعال بحادثة ما ، ومن ثم دفعها إلى المقدمة ، أو الانحياز ضد حادثة أخرى ، ومن ثم يكون إهمالها أو التهوين من أثرها ، لن نبحث عن هذا أو نفتش عن ذاك خارج النص ذاته ، إذ يرى النقد أن العمل الفني ينبغي أن يستغنى بنفسه ، وأن يكون مقنعا بطبيعة تركيبه ، وألا يحال في فهمه ، أو الانفعال به ، أو الإيمان بصدقه ، على حجة ليست من تكوينه اللغوي ، أو السياقي ، أو الرمزي ، أو الاستنتاجي .
وقبل أن ندخل إلى صميم الديوان ، بقيت هناك بعض أمور ، يمكن أن نشير إليها في ملاحظتين :
الأولى : تتعلق بمقدمة الديوان ، وعلاماته الموجهة ، فالشاعر يدافع عن تهمة – هي هذه المرة تهمة فنية – أن الديوان استجابة مباشرة لحدث لم يفهمه جيدا ، وتأخذ صيغة الشاعر ما يؤكد التسليم بهذا ، بل يقرر أنه لم يحاول فهم ما جرى ، وإن شكك فيما قرره بأن هذه التهمة – تهمة عدم الفهم – ستلاحقه ، حتى لو كانت القصيدة هبطت عليه من السماء !! غير أنه يبرر استجابته المباشرة هذه بقوله : إن ” لوعة الصرخة قد تحمل من الشاعرية ما لا يحمله الهمس الزائف بتهويمات وأذكار ، تدور حول الحقيقة في نعومة الحيات ، ترهب المبصر أن يرى وتمنع صاحب المشوار عن مواصلته ” . ونقول تعقيبا على هذا إن ” المقابلة غير صحيحة ، أو غير دقيقة ، فالمباشرة – على فرض التسليم بوجودها ليست البديل ، أو ليس البديل لها هو الهمس الزائف والتهويمات الغامضة إن المباشرة تعني – فيما تعنيه – النقل المباشر عن الواقع ، وتقبل كل ما يعتمل في النفس أو يرد إلى الخاطر أو يمتاحه التداعي من الذاكرة ، دون أن يتم انتخابه ، وتصفيته ، وإعادة تشكيله ، وتحديد موقعه من السياق احتكاما إلى قانون واحد أساسي هو الارتباط العضوي بين الجزء والكل ولتحقيق هدف واحد هو إمكان التفسير الكلي ، الذي لا يقبل التجزئة ، ولا تتناطح مراحله ، أو تتناقض(1) . إن المباشرة بهذا المعنى ليست موجودة ، إلا في مواقف جزئية جدا ، لم تعطل التدفق الدرامي ، ولم تؤثر على وحدة التفسير وكليته . أما المباشرة التي قصدها الشاعر ، وجعلها مقابل الغموض أو التهويم والهروب من إعلان الموقف ، فهي موجودة واضحة وليست دائما مما يلام عليه الشاعر أو تعتبر مطعنا في قوة الشاعرية ، فمثلا حين يقول :
آدي الكويت منزوعة الشريان
وقاتلها واقف يلحس السكين(2)
هذا تعبير صوري رفيع ، محمل بدلالات عميقة ، مؤثرة ، مع هذا فيه قدر من المباشرة والتحدد ، لعله مطلب في الشعر السياسي ، الذي ينتمي إليه هذا الديوان ، وإن كان لا يصح إهمال العناصر الشعرية الخالصة . إن ” المباشرة ” هنا متوائمة مع مطلب الشاعرية ، متوازنة مع عمق الفكرة مستخلصة من الصورة . ماذا تعني الافتتاحية ” آدي الكويت ” في طريقة نطق العامية المصرية ؟ إننا نخطئ في حق ” الدلالة ” إذا ترجمناها بذاتها ، ناقصة أو معدومة الإثارة ، في حين أن التعبير العامي ينطوي على إثارة ، وتسجيل حالة ، وضبط متلبس بالجرم المشهود . إن ” آدي الكويت ” ليست مركبة من أداة إشارة ، ومشار إليه كما في ” هذه الكويت ” . ولعلنا نستكشف آفاق الدلالة حين نستحضر المثل الشائع ” آدي الجمل وآدي الجمال ” ، إنه يعني : ها هما طرفا الدعوى ، ولا مجال للمراوغة في معرفة الحقيقة . ولنتأمل أيضا رمزية ” منزوعة الشريان ” وتحديد القاتل ، ونهمه إلى الإيغال في جرمه وتبجحه بإعلانه .. فها ، ومثله ، مباشر بدرجة ما ، من حيث شفافية القناع المسدل – بالتصوير – على المعنى المجرد ، لكنه مجسد ، ومجازي ، وشعري أيضا !!
ويقول الأبنودي – في مقدمته – إنه كتب قصيدته في عشرة أيام من أكتوبر عام 1990 ، ثم قرأها على الناس في البحرين وقطر والإمارات ” وظلت القصيدة خلال تلك الفترة تعيد تشكيل نفسها ، حتى استقرت على هذه الصورة التي قرأتها بها على خشبة المسرح القومي بمصر ، قبل الحرب وهنا نقول إننا سنتعامل مع هذه الصياغة المثبتة في الديوان ، ولا نجد ضرورة ملحة للمقابلة ، أو الموازنة بين بداية النص ، ونموّه على مراحل ، حتى استقر على صيغته التي نعتمدها ، على أهمية هذا التتبع ، أو التتابع ، للكشف عن دور التلقي ، واثر ردود الفعل في توجيه الموهبة بالتحفظ والحذف ، أو الإفاضة والإضافة . قد ينظر بعض النقاد إلى مثل هذا الصنيع من الشاعر على أنه أدخل في نشاط علم النفس المشتغل بسيكولوجية الإبداع(3) ، وهذا صحيح في جملته . ولكن تجربة الأبنودي تختلف ( إنها لا تماثل تجربة أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته الشهرية ” أوراس (4) ” ) لأن تنامي القصيدة لا يتم عبر تأملها تأملا ذاتيا ، أو استشارة مراجع خاصة – مكتوبة أو شفهية – وإنما تم تعديل الصيغة من خلال عرضها على جمهور شاسع المساحة ، متنوع الثقافة ، متفاوت الأذواق ، ولابد أن مواقفه مما جرى تختلف بدرجة أو بأخرى ، والشاعر حين يلقي شعره في المحافل العامة لن تغيب عن أذنه استجابات مستمعيه ، وإن كان علينا أن ننبه إلى أننا لا نجد ما يحملنا على اعتبار الصيغة الماثلة الآن ثمرة أو إنتاجا جمعيا ، أو أنها عدلت مسارها لتوافق هوى جمهورها ففي الديوان بعض ما لا يسر أهل الكويت بصفة خاصة ، ولم يكن يريحهم – على الأقل في ذروة محنتهم في وطنهم – أن يسمعوه حتى وإن وضعه الشاعر في صيغة تهكم ، تحتمل نقيض ما يدل عليه ظاهرها :
آدي الكويت مقتولة في الشارع
والدمع لامع فوق لظى الأسفلت
آدي الكويت .. حاعمل مانيش سامع
وحــــازيد عمى مــــع مــرور الوقت
لا ليا فيها ابن
ولا ليا بيت ..
ولا الكوايتة عمقوا صلتي .. بكلمة ( الكويت )
فلا زرعنا سوا
ولا قلعنا سوا
ولا اتقاسمنا المعاناة .. ولا الهوا
ولا حــــاربنا ومتنـــــا متعانقين
ولا إذا غبنا بنحــسّ بالحـــنين(5)
هذا بعض ما وجه الشاعر من نقد ، قد يعني به إدانة موقف اللامبالاة أو العزلة ، لكنه – مع هذا – يكشف عن سلبيات متأصلة ، وسنشير إلى غير ها في مواقع أخرى ، ونكتفي هنا بتقرير أن ها العمل وإن استهوى استجابات الجمهور ، فإنه لم يوضع لاسترضاء هذا الجمهور ، أو إشباع ميوله بالعزف على أنغامه . إنه ملك صاحبه ، معبر عن رؤيته الذاتية ، المستندة إلى الوجدان المصري الوطني ، دون غيره .
الملاحظة الثانية : عن دوافع الاختيار لهذا الديوان ، من بين الأشعار الكثيرة التي قيلت إبان أحداث الكويت الدامية ، وفي أعقاب تحريرها ، وإلى اليوم . فإذا وجهنا الاهتمام إلى شعراء مصر بصفة خاصة ، فإن ديوان ” الكويت في عيون الشعراء ” يحمل عشرات منها ، تتقارب في أفكارها ومعانيها بوضوح يؤكد تماسك الوجدان المصري ووحدة التوجه العام في المجتمع وتقارب نمط التفكير وركائز الاهتمام ، ثم يأتي التفاوت أو الاختلاف في التناول الفني(6) . ونراجع تاريخ إبداع ديوان ” الاستعمار العربي ” كما قرره الشاعر في مقدمته – وكما اشرنا إليه آنفا – فنجده يواكب فترة الذروة التي توجه فيها شعراء مصر ( وغيرهم بالطبع ) للاهتمام بكارثة الاجتياح واحتمالات الغد المخيفة ، مع هذا لا نجد للأبنودي شيئا في ديوان ” الكويت في عيون الشعراء ” الذي استمد تكوينه من قصائد نشرتها الصحف أساسا . إن هذا يعني – استنتاجا – أنه لم يفكر في نشر تجاربه الأولى في الموضوع وأنه فضل الانتظار ، والمراجعة ، والإضافة ليقدم رؤية ” مصرية ” مكتملة عن الكارثة المؤلمة التي نزلت بالأمة العربية كلها ، وتلظت فيها الكويت قبل غيرها . ولسنا نقصد من وصف الرؤية بأنها ” مصرية ” أن نكشف عن ” جنسية الأبنودي ” ، وإنما عن مدى تمثله لمشاعر الشعب المصري ، وتصوراته ، وطبقات أحزانه ، وتداعيات أشجانه وهو يرى لحظة بلحظة ما يجري على أرض الكويت ، وما تعانيه الأمة تبعا لذلك لقد كان ديوان ” الاستعمار العربي ” الأكثر صدقا وشمولاً ، حتى لكأن الشاعر كان يلتقط عبارات ” الشارع المصري ” وانطباعات الأسر المصرية وتعليقاتها وهي تجلس في الأمسيات أمام أجهزة التلفزيون ، تشاهد ، وتتابع مستجدات القرارات ، وتختلط في الصدور التنهدات والآلام من ، وعى ما جرى ، وما يجري ، وما يحتمل أن يكون .
إن هذا الأمر – على أية حال – يس مدحا غير مشوب بشائبة من القلق ، فالأبنودي شاعر أولا ، وكونه يكتب أشعاره بالعامية المصرية لا ينهض إعفاء له من شرط الشاعرية ( التصوير الفني المؤثر ) وشرط الشاعر ( أن يملك رؤية ) . فإلى أي مدى تحقق هذان الشرطان في ديوانه ؟ من هنا كان عنوان هذه الدراسة ، ومن هنا أيضا كانت إشارتنا تحديدا إلى ما سجله من مقدمته من تقاصر مدة معاناة صناعة هذا الديوان ، وعرضه على الجمهور ولما يكتمل . والشاعر الحق – كما يقول غنيمي هلال – هو الذي تتضح في نفسه تجربته ن ويقف على أجزائها بفكره ، ويرتبها ترتيبا قبل أن يبدأ في الكتابة … إن التعبير الشعري مناف للتعبير العاطفي المباشر ، ولا ينجح الشاعر في التعبير عن تجربته حتى يصير أفكاره الذاتية موضوعية ، بأن يجعلها موضوع تأمله(7) . هذا واحد من أسس مناقشتنا لهذا الديوان وأيضا هو أحد أسباب إيثاره من بين ما كتب شعراء مصر عن اجتياح الكويت .
وقد كتب الشاعر عنوانا وصفيا على غلاف كتابه هو “قصيدة بالعامية المصرية ” . فإلى أي مدى يصح وصف ديوان ” الاستعمار العربي ” بأنه ” قصيدة ” – ويستخدم الشاعر هذا المصطلح الفني الراسخ المستقر ؟
إن المعنى اللغوي للقصيدة يعتمد على كمال البنية وصحة الوزن ، والعناية بالتنقيح باللفظ الجيد والمعنى المختار ، ويقول صاحب لسان العرب : ” سمي شعر التام قصيدة لأن قائله جعله من باله ، فقصد له قصدا ، ولم يحتسه احتساء على ما خطر بباله وجرى على لسانه ، بل روى فيه خاطره واجتهد في تجويده ولم يقتضبه اقتضابا “(8) . وبطل القصيدة هو الشاعر ، مبدعها ، فهي معبرة عنه دون غيره(9) . من ناحية أخرى يمكن اختبار الوصف الملائم بعرض ” الشكل ” على ممكنات التشكيل الشعري وقد يصح الوصف بالديوان ، كما يصح الوصف بالقصة الشعرية ، لأسباب نعرفها فيما بعد ، وفي قصائد هذا الديوان تجسدت العواطف الثمانية الأساسية التي تحدث عنها منظرو الدراما ، وأرجعوا إليها قوة التعبير عن المشاعر والأحلام الإنسانية ، وهي : الحب ، والبطولة ، والحنان أو الحزن الرقيق ، والغضب ، والضحك ، والخوف أو الرعب ، والتقزز ، والتعجب أو الإعجاب . وإجمالا نقول إن هذه العواطف جميعا قد تنقلت بينها مشاهد الديوان ، وتماوجت بها انفعالات الأشخاص ودلالات الأحداث . إن هذا يعني توافر عناصر الدراما ، وتحقق قدر لا يستهان به من البنية الدرامية ، مما يقارب بين هذا الديوان وفن المسرح ( ولا نستبعد مسرحتها بإضافات أو تعديلات قليلة ) غير أن طابع الهزيمة والإحباط هو الغالب على أجواء الديوان ، مما يعني غياب عنصر ” البطولة ” ، فكان هذا الغياب سببا في سلب صفة الملحمية(10) ، وفي جعل التوتر أحادي الجانب ، ومن ثم ظل الصراع أقرب إلى طبيعة الصراع القصصي ، وابعد عن الصراع الدرامي الذي ينهض عليه البناء المسرحي .
(2)
لقد اختار الأبنودي لديوانه وصف ” قصيدة ” ورأينا أن هذا – من حيث كونه إيحاء بالذاتية والحضور وقوة الاندماج بين عناصر التكوين – يطري هذا العمل في جانب ويحرف تصوره ويظلمه في جانب آخر ، إنه – من باب أولى – عمل حكائي ملحمي ( رغم غياب البطولة أو تشتتها ) شعبي ، قام على عناصر فولكلورية تراثية ، وأخرى ذهنية مستولدة من الأشكال الفنية الحديثة . ونحاول في هذه الفقرة عن الشك الفني وجمالياته أن نفرز هذه العناصر ، ونرى إلى أي مدى تفاعلت ، وتكاملت ، لتمنح هذا العمل مذاقه الخاص .
ويمكن أن نتتبع الخط العام الذي بدأت به الحكاية ، ونرصد كيف تطور ، وإلام انتهى ، وهل استطاع أن يحدد للحكاية إطارا متماسكا واضح المعالم ؟ وهذه مقدمة ضرورية لفرز العناصر ورصد طريقة عملها أو تفاعلها ، الذي يتلاحم مع الإطار العام ، إن لم تكن هي صانعة هذا الإطار العام .
- هناك صوتان أساسيان في الحكاية هما الشاعر والآخر . وكل منهما يتمتع بالحضور المباشر في مواقف ، ويتخذ من شخصية أخرى قناعا في مواقف غيرها . الشاعر هو صوت البداية ، وهو يقدم لنا الآخر ، ومن طريقة التقديم سنشعر أن ” الواحد ” ينشطر بفعل الكارثة الداهمة إلى اثنين ” بينهما اختلاف ، يتحول إلى تناقض ، فينشأ على الفور ” الفعل الدرامي ” :
كان لي أخ
رفقا في السرا وفي الضرا ، وفي الثورة
وفي الحلوة ، وفي المرة .. سنين وسنين
نقول ونقول ، وما نبطلس جخ(11)
إن الصفات والتجارب المسبغة على الصديقين تؤكد توحدهما :
” تقدروا تسمونا عشاق للمبادئ “
ثم وقعت كارثة الغزو ، فكان الفراق بين الأخوين :
” قول ظبطني حزين على شعب الكويت “(12)
- وهكذا تقع الفرقة بين الأخوين ، ويتبادلان التهم ، فيتركه الشاعر ويتوجه بالخطاب إلى الشعب العراقي ، معلنا أن مصلحته الحقيقية في أن يرتدع عن غي قيادته ، فهو الباقي ، كما أن الشعب الكويتي باق أيضا .
- ويستمر صوت الشاعر في تبني المواقف القومية ، وتقبل التضحية في سبيل الغايات الكبرى للأمة ، فيظهر تحت قناع ” عبد العال ” ، الفلاح المصري الذي نادته العراق ومنحته الأرض والبيت والحفاوة ، ثم وجد نفسه مدعوا لمحاربة إيران ، فحاربها دون اهتمام بوجه الحق في محاربتها :
ماليش في مين غلطان
واكل خبز العراق
أبقى ضد الإيران(13)
ورغم جراحه وضحايا زملائه المصريين في هذه الحرب فإنه ظل يزرع الأرض العراقية ويحيل صخورها ومستنقعاتها إلى خضرة . بل استمر يزرع حتى بعد أن صادروا مدخراته وضاعت قروشه القليلة هناك ، فغلبه الأسى وشعور الإحباط ، غير أن إعلان صدام أن سيدمر إسرائيل أنساه قروشه الضائعة ، وجعله يندمج في شخصية الزعيم ، فبعد أن هتف بحرارة : ” يحيا الرئيس صدام ” :
ساعتها روحي هِديتْ
مرتاح البال غفيت
وحسيت ليا أمه
وليا وطن وبيت
وحسيت ليا قائد
وإني من تكريت
وصحيت لقيت البصرة
بترمح في الكويت
- ويجمع عبد العال ما تيسر من ” خلقاته ” ويأخذ زوجته ” مبروكة ” هاربا عائدا إلى مصر ، فيعاني على طريق الرويشد ، وفي الأردن مثلما كان يعاني في العراق وأكثر ، لكنه هرب من معاناة لا يستطيعها أن يحارب معهم الكويت كما حارب معهم إيران ! ..
- ثم يختفي عبد العال ، ليعود الشاعر سافرا ، في مرثية حزينة قانطة غاضبة تصف ما جرى في الكويت ، وتسحبه على ما يجري للأمة العربية التي فقدت عقلها وتجربتها التاريخية ، ففقدت طريقها ومستقبلها .
- وكما يظهر الشاعر سافرا ، أو من وراء شخصية عبد العال ، فإن ” الآخر ” يكون مرة ” صدام حسين ” نفسه ، يبرر فعلته في العراق ، ويفسر الأمة وتاريخها على هواه ، ومرة يكون هذا الآخر ” المثقف ” الانتهازي ، الذي يرى في اختلاف الرأي في القضية فرصة للارتزاق ، ويقدم تفسيرا ” ثوريا ” جاهزا لكل فعل خسيس .
أما الشعار فأهه :
نحقق الثورة
نوزع الثروة
نوحد الأمة ، لو ننزع الفروة
وإن يصرخوا المتضررين
والـــــــدم في وش الــــــدبيحة .. غاض
نـــــرفع شعارات ( التطهــــــر بالأنين )
أو ( الألـــــــم ســــــــــاعة المخــــاض )
حبة ضحايا لأجل ما نسعد ملايين آخرين
( الكــــدب فــــي عــــش الغواية باض )
قانون جديد للمسلمين
نفعني واستنفع
بأكتر ما تتوقع
الانتهازية سلاح العصر
أنا أشتم الأردن
وإنت تشتم مصر !!(14)
- وهكذا يدين الشاعر انتهازية قطاع من ” المثقفين ” الزاعقين بالشعارات التبريرية وبهذا يكون قد أعاد آخر الحكاية إلى بدايتها ، ورد على ” أخيه ” الذي وصمه بالعمالة ، وبأنه ” مخبر ” ، فوضعه أمام حقيقته الفاجعة ، وافجع ما فيها أنه لا مجال لالتئام الأخوة بعد هذه التجربة المريرة .
هذا هو المسار العام للحكاية في ” الاستعمار العربي ” ، وهي وإن كانت طريقة طباعتها وعناوينها الفرعية توقع في الاضطراب ، حيث لا نصادف غير عنوانين هما : ” وقال الزعيم ” (ص36) الذي يمتد ويتداخل مع غيره دون تحديد ، ثم ” وعبد العال يقول ” ( ص55) ويرتطم قوله بقصائد لها استقلاليتها الواضحة عما يقوله هذا الفلاح المهاجر إلى العراق ، دون وجود مؤشر للانتقال ، فإنه رغم هذا الاضطراب الواضح ، يمكن تقسيم الحكاية إلى ستة مشاهد متعاقبة في ترتيب الانفعال ، وإن كان بعضها يرجع إلى زمان سابق على الحدث الآتي :
المشهد الأول : وقوع الفرقة بين الأخوين بعد ماض حي تصافيا فيه ، وسبب الفرقة اعتداء العراق على الكويت .
المشهد الثاني : يحكي فيه صدام حسين فلسفته في الحكم ، وتطلعاته للسيطرة ، وإنكاره أن يكون للكويت وجود سابق ، واحتقاره للرفض العربي والعالمي الذي قوبل به .
المشهد الثالث : مشهد رمزي للأهوال التي تعرضت لها الكويت ، عناصره مستمدة من الحدوتة الشعبية عن الأميرة الجميلة المعذبة التي لا تجد من ينقذها .
المشهد الرابع : يرويه الفلاح المصري عبد العال ، مبينا دوافع هجرته إلى العراق ، وفلاحة الأرض ، ومشاركته في حرب إيران ، وإنكار جهده بعد انتهاء هذه الحرب ، ثم مطالبة بالمشاركة في عملية الكويت ، ورفضه ذلك ، وأهوال عودته إلى بلاده .
المشهد الخامس : وهو خاص بوصف ما جرى للكويت ، وطنا وبشرا ، وما عانوا من أهوال .
المشهد السادس : بكائية على المصير العربي ، جمع فيها الشاعر خيوط النسيج الفني في مراحل الحكاية :
إن تقسيم الحكاية إلى ” مشاهد ” يجعل منها ” مسرحية ” متتابعة الفصول ، يرتب كل منها بالآخر بعلاقة ” منطقية ” ، و ” سببية ” لا تعتمد على التتابع الزمني المجرد وهي تأخذ من الأصول الكلاسيكية بالإضافة إلى العنصر السابق : التعرف والتحول بالمعنى العام ، متجسدين في رحلة عبد العال في الذهاب والعودة . غير أنه لا مجال للحديث عن الهدف التطهيري ، لأن الشاعر استطاع أن يجعل قارئه في صميم الحدث ولم يخلصه من براثنه في النهاية ، بل أطبق عليه في رؤية كابوسية رهيبة ، تستدعي مبادئ مسرح العبث ، ومسرح الغضب ، في ذلك النشيد الختامي الحزين يتوجه فيه الشاعر إلى أضعف الكائنات(15) ، علامة النهاية والفناء :
ويا عنكبوتة كملي عشك
لا حد حيزيحك ولا يهشك
لمي مهاجرينك
وثبتي دينك
اتمطعي وخدينا في وشك(16)
وقد تنقل بنا بين مشاعر متناقضة ، أو هو راوح بين تلك العواطف الثمانية ، بل لعله أضاف إليها عواطف مركبة أبعد غورا في النفس ، مثل العدل ، والندم ، والعجز والإيمان ، وتوقع المعجزة ، وإضمار اليأس !! غير أنها تبقى – مع هذا – حكاية تستمد قوتها واستقلال شخصيتها الفنية من عناصرها الشعبية .
على أننا – قبل أن نخلص إلى هذه العناصر أو المكونات الشعبية – نوضح أننا لم نرد بإشارتنا السابقة إلى ” المشاهد ” المكونة من مواقف متعاقبة أن ننسب هذا العمل إلى المسرح ، وإنما إلى الدراما ، فدون نسبته إلى المسرح عقبات عدة ، في مقدمتها أنه يبدأ أكثر من مرة ، في أكثر من مكان ، وأن أطراف الحدث منفعلة به أكثر مما هي صانعة له أو مؤثرة فيه ، وعكس هذا هو الذي يقيم بنية مسرحية ناجحة ، غير أن ” الدراما ” يمكن أن تتحقق ( حتى في القصيدة الغنائية ) من خلال المفارقة ، والمفاجأة ، وانعكاس المقدمات لتكون ضد النتائج ، وهذا هو القدر المتحقق – بوسائل مختلفة – في ديوان ” الاستعمار العربي ” .
ودون الدخول في مماحكات لا أهمية لها حول ما هو شكل وما هو محتوى في العمل الفني ، فإننا نرى هذه العناصر الشعبية ” شكلا ” لأنها التي تمنح هذا الديوان لونه الخاص ، وسر صناعته المميزة . وبالطبع فإننا وضعنا التعبير باللهجة العامية في اعتبارنا ، دون أن يكون مناط الحكم أو صاحب تأثير في الوصف بالشعبية ، لأن ” الشعبية ” ليست ” لغة ” أو ” لهجة ” ، بل طريقة استخدام اللغة أو اللهجة(17) ، بحيث تخرج من كونها مجرد محاكاة ظاهرية أو صوتية لطريقة نطق العامة ، أو ” بعثرة ” بعض المفردات والتراكيب والمصطلحات التي تشيع في أوساط معينة من أصحاب الحرف ، أو من نسميهم ” أولاد البلد ” .. إلخ ، بحيث تخرج إلى الاستخدام الخاص جدا ، النابع من التجربة التاريخية ( الضاربة بجذورها في عمق الشخصية الشعبية ) مع اللغة الخاصة المحملة بفلسفة الشعب وتصوره المميز له في أمور الحياة الاعتقادية والعملية والفكرية .
لقد تميز الأبنودي من بين شعراء العامية في مصر بهذه الخاصية ، تعينه عليها نشأته في صعيد مصر ، والصعيد كامتداد في عمق الوادي ، له قدر من العزلة لم يتحقق للدلتا ومصر الوسطى المستهدفة للتعامل مع أجناس من الأجانب والوافدين تركوا آثارا في السلوك وفي اللهجة معا . لهذا استقرت خبرته ” الصعيدية ” يختزنها ويستمدها في صناعته ، فلا نكاد نجد غير القليل من ” التعبير الهجين ” الذي قد يعود إلى استمداد القاموس الثقافي ، أو عدم التروي في انتقاء اللفظة المناسبة أكثر مما يرجع إلى معايشة البيئة القاهرية .
فمثلا حين يريد أن يعبر عن حميمية العلاقة مع صديق وصفه بأنه ” أخ ” ، يختصر الكثير جدا من دلائل قوة العلاقة ، وطبيعة الشخصين معا في عبارة مركبة بسيطة في نفس الوقت ، فتكون في تركيبها وبساطتها معبرة عما لا يسهل الوصول إليه بغير هذه الطريقة :
” نقول ونقول وما نبطلش جخ “(18)
إن التكرار في ” نقول ونقول ” يعطي معنى الامتداد ، الاستمرار ، وهذا يدل على اطمئنان زائد من كل منهما للآخر ، وهو يختلف عن صياغة أخرى تشارك في جانب من المعنى لكنها لا تؤديه كله ، وبخاصة من الناحية النفسية ، فلو أنه قال بدلا من ” نقول ونقول ” : ” أقول وأقول ” إنهما في هذه الصياغة الأخيرة يتبادلان القول ، ومع أن معنى واو العطف هنا يدل على مطلق الاشتراك ، فإن إسناد الفعل إلى المفرد سيرشح ” التعاقب ” فيا لقول ، وليس المشاركة ، وبخاصة أن أحدهما فقط هو الذي يحكي ، ومن الطبيعي أن يختلف الضمير : أقول ( أنا ) / و / يقول ( هو ) . في حين أن نقول ونقول ، تجعل كليهما متكلمين سامعين في وقت واحد ، أو أنهما شخص واحد : متكلم مستمع معا ، وفي هذا من قوة الإيحاء بعمق الصداقة وشدة الوثوق بالأمان والرضا ما لا يخفى . ويتأكد الامتداد المستريح للحديث في ” مانبطلش ” [ لا نكف ] عن ” الجخّ ” . والإنسان لا يطلق العنان لمبالغاته وتصوراته إلا حين يتحدث إلى من يثق به ، ويحبه ، ويشبهه في طباعه أيضا .. وهذا كله مستفاد من هذا التعبير ” الشعبي جدا ” و ” الفصيح تمام ” في نفس الوقت .
في ” لسان العرب ” ، في مادة ” جخخ ” جاءت هذه المعاني :
جخّ ببوله : إذا رغاه حتى يخدّه الأرض .
جخ برجله : نسف بها التراب في مشيه .
جخ الرجل : تحول من مكان إلى مكان .
جخجخ : صاح ونادى . قال الأغلب العجلى :
إن سرك العز فجخجخ في جُشَمْ
أهل النباه والعديد والكرم
وقال أبو الهيثم في معنى قول الأغلب : فجخجخ بجشم ، أي ادع بها تفاخر معك .
وفي الحواشي : الجخجخة : التعريض ، أي عرض بها ، وتعرض لها .
قال أبو الفضل : وسمعت أبا الهيثم يقول : جخجخ أصله من جخ جخْ ، كما تقول : بخ بَخ ، عند تفضيلك الشيء .
وجخ جَخ : حكاية صوت البطن .
وتجخجخ : إذا اضطجع وتمكن واسترخى(19) .
هذا بعض ما جاء في معجم لسان العرب من معاني الفعل ” جخخ ” ومشتقاته ، وهي جميعا تكشف عن دلالة الاستخدام الشعبي المصري للكلمة ، ربما بأكثر وأقوى مما يحتمل أي شرح لها . فالجخ نوع من الثرثرة ، ” الرغي ” ( التي جاءت من إرغاء البعير ورغوة الصابون ، فهو ملء فراغ بلا شيء ) والجخ عبث لا يفيد وقد يضر ، والجخ الثرثرة والرغي يشارك التحول من مكان إلى مكان ، لأن المتكلم به يهرف في كل اتجاه ، لا يحكمه منطق ، ولا يلجمه عقل ، والجخ نوع من المفاخرة والتفضيل ( تفضيل النفس ) الذي سيتضمن لا محالة التعريض بالغير ، والجخّ – أخيرا – يؤدي وظيفة نفسية للمغرم به ، إنه نوع من الاسترخاء والراحة واستعادة النشاط ، وهذا قريب من معنى : تجخجخ : إذا اضطجع وتمكن واسترخى .
إننا لا نزعم – على أية حال – أن الشاعر حين استخدم هذه الكلمة أو فضلها على ما يرادفها أو يقاربها في المعنى ( مثل الفَشْر ، والمعر ) كان يستحضر جذور هذه الكلمة واستخداماتها عبر العصور ، ولسنا نطلب منه ذلك ، والمحصلة أنه انتهى إلى انتخاب الكلمة الموحية بتركيبها الصوتي ، ( إذ ترتبط الأصوات الحلقية المفخمة مثل الخاء بالبيئات البدوية والريفية ، ففي بادية الكويت يقولون الدَّخْتر بدلا من الدكتور وهو الطبيب ، وفي بعض ريف مصر يقولون دلوخت [ أي الآن ] بدلا من دلوقت )(20) والدقيقة في معناها ، العميقة في انتمائها إلى بيئتها الخاصة كذلك . كما أننا لن نلجأ إلى الصنيع ذاته فيما نقدم من أمثلة على دقة التعبير عن مجموع الشعب في استخدامه للهجة ، وإلا طال الأمر بنا .
مثل هذا نجده في قوله عن صديقه المشار إليه ( وقد ذكرنا هذا آنفا ) :
قول ظبطني حزين على شعب الكويت(21)
وستضعنا ” قول ” هذه بالطريقة الحكائية الشعبية ، فهي ليست ” قل ” [ فعل أمر بالنطق العامي ، إنها تعني : الخلاصة / افترض ، أخيرا انتهينا إلى أن ، لا أطيل عليك الحديث فقد . ] إن هذا كله متضمن في هذه الصيغة العابرة ، فإذا أضفنا إليها ما تدل عليه ” ظبطني ” من معنى الإخفاء أو التخفي ، والمفاجأة ، والشعور بالحرج .. قاربنا إدراك ما نعنيه بالتعبير الشعبي . والأمثلة على هذا كثيرة ، لا نجد ضرورة لتقصيها ، ونذكر بعضا منها :
حين يتحدث المصري عن همومه وتضحياته السابقة ، ومطالبته بأن يضحي بالكويت ، من أجل العراق ، فإنه يخاطب العراقي ( ومجموع العرب من خلفه ) قائلا :
أنا مُتّ لك ياما مين في أمتك مات لي ؟(22)
ونقف قليلا عند مفردات هذا البيت : ” ياما ” هنا بمعنى كتير ، وهي من التراث المصري الخاص(23) . ” الأنا ” تتصدر الجملة لأنها المتضررة المحتجة . مت لك ، تعني مت من أجلك ، كما تعني مت بسببك ، وتعني مت بدلا منك . إسناد الأمة للمخاطب ( مع أنها أمة المتكلم أيضا ) يمتد بالإدانة من هذا المخاطب إلى المجموع من ورائه ، وحين تكون ملومة فإنها ” أمته ” لأنها مدانة ملومة مثله . ” مين في أمتك مات لي ؟ ” طريقة شعبية وأسلوب راسخ في وجدان العدالة وميزان الضمير الذي يطالب ” بالمقاصة ” وأن يكون الجزاء من جنس العمل .
نذكر هنا أيضا عبارات مثل :
والتاريخ لو مش كلام نرفض أبوه(24)
وتعني : نرفضه من جذوره وننكر أصوله ، فهذا ما يدل عليه استخدام ” الأب ” في هذا السياق . والعبارة وردت على لسان مسول الانتهازية أو اعتزال الحدث الدامي الماثل .
أما حين يضيق صدر الشاعر بما يرى من صور النفاق السياسي والوجل الفكري ، ويلاحظ بألم الزج بالشعارات القومية وأكاذيب التقدمية لتبرير الفعلة الخبيثة ، فإنه يعبر عن ضيقه ورفضه وتمرده بطريقة مصرية مألوفة لا نكاد نلحظها في سلوكيات التعبير لدى أقطار أخرى :
يا … رب
ما تحببني في الناس الملاح تاني
يا رب ، ما ترجعني أعشق ضحكة إخواني ،
ولا دعا أمي
وهي بتصلي وبتسمي
يا … رب كرهني في أوطاني
يا … رب كرهني في طهارة اللقمة
وأمانة الكلمة
وفي كل شيء طيب وإنساني(25)
فها هنا صيغة التباسية ، ودعاء يدل على عكس ظاهره ، ومدح بما يشبه الذم ، مفهوم ضمنا ، فهنا إقرار بصدق عواطفه ونبالة وطنيته ، لأن ظاهر العبارة أنه ينخلع ويتنكر لما كان يعتقد : حب الملاح ، عشق الأصدقاء ، دعاء الأم ، حب الوطن ، التمسك بطهارة الكسب ، وأمانة الكلمة ، والتعلق بكل ما هو طيب . إنه يعاني في سبيل إيمانه بهذا كله ن وحين يدعو الله أن يخلصه من إيمانه القديم ، فإنه لا يعبر عن رغبته الحقيقية ، وإنما عن محنته من الآخرين المتنكرين لهذا الإيمان .
أما تعبيره الخاطف الدقيق عن حاله حين ذهب إلى العراق ، ليزرع أرضه ، وصورته وهو عائد ، فيجملها بقوله :
رحت العراق بتوبي
ورجعت وأنا عريان(26)
أما حين يحض العراقيون عبد العال على الوقوف معهم في حرب الكويت ، كما وقف معهم في حرب إيران . فإنه يرفض :
دم المجوس وماشي
حتى لو منه شارب
إنما دم الشقاقه ؟! [ الأشقاء ]
في أعقاب هذا الرفض يعاني الأهوال :
صدام نيّلني خالص
ويأخذ زوجته ويرحل ، فيعاني – من خوفه عليها – ويلات لا تحتمل ، فيخاطبها :
مبروكة أظن نادر
أنا لو خلّفت تاني(27)
وحين يصل الأردن ، وتتجدد أهوال رحلته ، وتتضاعف مخاوفه ، لا يزال يعبر بطريقة الذي يحكي :
والأردنية يابا
دي الأردن ولا غابه ؟
يا رب ليه خالقنا
في أمة من الديابة ؟ (28)
إن توجيه الخطاب للأب ، حيث لا أب على الحقيقة ، يراد به إثارة الشفقة ، شفقة المخاطب المفترض .
ولم تقتصر الطريقة الشعبية على غموض الشاعر إلى أعماق الوجدان الشعبي ، واستخراج الكلمة ، والعبارة ، والصورة ( كما سنرى ) المضمخة بعمق تجربته المميزة ، وطريقته في اجتذاب انتباه مخاطبه ، وإثارة شفقته . إنه يتجاوز هذا إلى أساليب للازمة ” التي تتكرر ما بين مقطع وآخر ، لتحديد معالم الحكاية ، وتجديد نشاط المتلقي ، وإثارة انتباهه . إن راوي الحدوتة الشعبية يلجأ إلى تكرار عبارات معينة ، كأن يدعو سامعيه بين حين وآخر للصلاة على النبي ، أو يقول : ” يرجع مرجوعنا ” مستأنفا حديثا انقطع عن تطويره منذ وقت . وقد استخدم الأبنودي هذا التكرار ، كفواصل ، وأداة ربط ، في مواقع مختلفة ، مثل : ” قال المغني ” أو : ” هكذا قال المغني “(29) ومن وسائل الحكاء الشعبي أن يعتمد على السياق ، وفهم المستمع في تحديد هوية المتكلمين ، دون ذكر أسمائهم كلما نسب إليهم قول ، وهذا واضح في هذا المقطع :
تحت الحصار .. البلاد .. واقفه .. بتستنظر
كاميرا .. جديدة أمريكاني .. مثبته المنظر
يقول له : راح أمـوتك . يقول له .. : بتهزر
وحلت في الهم وحداني .. وماشي أقول :
إمتى يا شعب الكويت .. قضيتك تُنظر ؟(30)
إن ” يقول لله ” ( يقول له ) الأولى : القائل فيها الأمريكان ، أما الثانية التي تعتبر ردا ، فالقائل هو صدام ، الذي لا يريد أن يصدق التهديد بالموت . وهذه إحدى طرق الحكاء الشعبي في سرد الأحداث ، واقتضاب أطراف الحوار ، اعتمادا على السياق ، وحرصا على تدفق الحدث ، وعدم تعويقه بذكر الأسماء .
وقد استخدم الأبنودي في وصف ما جرى للكويت صيغة ” الحدوتة ” كاملة ، مستقطبة داخل السياق العام ، وكأنها ” خميرة ” خاصة ، انطوت على كل عناصر التكوين الشامل للحكاية ، أو هي – بمصطلح ” إليوت ” معادل موضوعي لكافة معطيات العمل الفني :
القلب يعوي ، عــــارفني الليــــــل بنباحي
مراكب الهم ترســـم ليلاتي في جــــراحي
على الأميرة أم الشعور السودا والتباريح
ترقص على ماء الخليج تسوَد
رقص الغزال الذبيح
بدوية الصوت
والعيون فناجين(31)
الأميرة البدوية السمراء ، التي ترقص مذبوحة ، هي الكويت ، إنها لن تذبح وحسب، إنها ستطرد عن عرشها أيضا :
نازلة الأميرة من علالي القصور
بشعرها المنكوش .. وقلبها المعصور
العطر في وسط النيران بيفوح
والموت بيرقص ع الرمال ما يكف
لَزَق القميص م العرق
مفزوعه ، يفلت من قدمها الخفّ(32)
إنها حكاية – رمز – مكثفة ، هي خلاصة رؤية ن في شكل حدوتة ، عن الأميرة السمراء المطاردة ، مع هذا ، لم يفارقها جمالها ، حتى وهي في وسط النيران ، كان عطرها يفوح .
(3)
في هذه الفقرة نتمهل عند الصور الشعرية في الحكاية . فقد يرى البعض تناقضا – يحاول توفيقه – بين استخدام اللغة العامية ؛ لغة كل يوم ، والأسلوب الفني باعتباره – مظهر البلاغة القائم على الانتقاء . ولعلنا نتفق مع رشدي صالح في تحديده العام لبلاغة العامية بأنها ” تقتضي الإحاطة بمزاج أهلها ، ومؤدي اصطلاحاتهم في مختلف القضايا ، وفهم نفسيتهم “(33) . وهذا القول العام يكشف عن أساس بلاغة العامية ويمنحنا أحد معايير الحكم بأصالة الصورة ، أو سطحيتها ، ولكنه لم يتعرض للجانب الجمالي الشكلي ، وفي مقدمته أشكال واستخدامات الصورة ، ما دمنا بصدد عمل شعري أصلا(34) لقد كان الاهتمام بالصورة المدخل الحقيقي للتجديد ، والنهوض بالشعر الحديث(35) . وكما قلنا سابقا إن وصف عمل فني ما بالشعبية ، أو كتابته باللهجة العامية لا يصح أن يكون ترخيصا بإغفائه من جماليات اللغة ، ولا داعيا للتهاون في تحقيق عناصر التشكيل الفني للشعر ، وفي مقدمتها التعبير عن الأفكار بالصور المجازية ، والتجسيدية بوجه عام . ومباحث الصورة متعددة ، أقربها اكتشاف العلاقة بين الصورة التي يؤثرها الشاعر ونمط حياته ، وخبرته المباشرة بالحياة من حوله ، واعتبار هذه الصور مدخلا للكشف عن عالمه الخاص(36) وأعلاها محاولة اكتشاف مستويات الإدراك ، والحواس المستخدمة ، وأوجه الشبه ، ليس في الصورة الواحدة ، بل بين كافة صور العمل الفني ، بحيث تصنع ” شبكة ” متماسكة أو ” عناقيد ” متكاملة ، يضمها إطار شامل هو موضوع العمل الفني المميز عن موضوع عمل فني آخر(37) .
إننا يمكن أن نناقش صور الشاعر الأبنودي في ” الاستعمار العربي ” من هذين المنطلقين :
- علاقة الصور بتجربته الخاصة .
- ومستوى الصور وتكاملها في إطار موضوع القصيدة . ( الحكاية ) . وبهذا تكون وقفتنا عند الصور كاشفة عن الفكرة الرئيسية التي يحاول الشاعر اصطيادها في شبكة ” الشكل الفني ” – ومن ثم نتجنب حواراً لا ثمرة له عن موقفه من القضية في ذاتها مجرداً من معطيات هذا الديوان – مما يضعنا في صميم صدق الرؤية ، أو الصدق الفني ، المختلف تماماً في معجمه وصوره عن التلفيق الفني مهما كان ذكيا .
فمع الإقرار بمبدأ ” المقاصة ” – الذي اعتبره النقد منذ القدم(38) ، إلا أننا نرى البدء بالعنصر السلبي في الديوان ، وسنرى أنها – في مجال التعبير عن الروح الشعبية – قليلة ، وأن سلبيتها تتأتى من مصادر استمدادها ، ومن ثم ضعف الرابطة – وليس عمقها – بموضوع الحكاية .
إن الصور المستولدة من مصادر ثقافية ( في مقابل المستمدة من تجربة الحياة الشعبية العملية ) هي الصور الضعيفة في إيحائها ، الواهية الصلة بالجو الشعبي الحميم السائد في مشاهد الحكاية . ويبدو هذا في مفردات مثل قول الصوت الانتهازي :
إيــه يهـــم إن مُـــت مـن أجل البشر
والا سبْت الديب يسرّخ واتغابيت(39)
” الديب يسرّخ ” [ الذئب يصرخ ] هذه من المدنية ، وهي ضعيفة صوتيا غير موحية ، فالذئب لا يصرخ ، والسين التي أخذت مكان الصاد في لهجة العامة جعلت صوت الذئب يختلف ببكاء الإنسان ، وربما الطفل ! الذئب يعوي ، ومع تشديد الواو يستقيم الوزن ، ويتضاعف المعنى عملا بالقاعدة الصرفية ( زيادة المبنى دلالة على زيادة في المعنى ) وهي مستخدمة في لغة الكلام في الريف والمدن الصغيرة المصرية ، فهي أقرب نسبا لجوّ الحكاية .
وحين يصور تضحيات مصر في الدفاع عن العرب والعروبة ، وتساميها على جراحها الخاصة إذا ما تعرض الوطن العربي لجرح عام ، يقول :
ونسينا بدري نبكي
على موت الرجال
وعلى هدم المنازل
وتعطيل الكنال
والمصريين خلقهم
ربك ، للاحتمال(40)
إن ” هدم المنازل ” هذه ضعيفة جدا ، بل ضئيلة ، فهي دون الحقيقة ، وهي فاقدة التناسب أيضا ، فإسرائيل لهم تهدم منازل ، بل هدمت مدنا ، وبورسعيد شاهدة ، والسويس إبان حرب الاستنزاف دمرت أيضا ، ومدرسة ” بحر البقر ” ليست مجرد منزل ، وإنها ” مدينة ” وحدها ، وضمير أمة !! ومنازل جمع قلة ، ولا يدعم حجم التدمير في تعطيل القناة – أو الكنال ، فتوازي التعطيل وتناسب الصور أن تكون العبارة :
وعلى هدم المداين
وتعطيل الكنال
ومثل هذا يمكن أن يقال على الشطر الذي يعبر فيه عبد العال عن خذلانه :
صدام نيَّلني خالص
صحيح أن عبد العال كان يصدر عن معاناة شخصية مباشرة ، لكنه لو قال : ” نَيَّلْها ” فإن الدلالة ستكون أقوى ، والإيحاء المحرف سيكون مستبعدا تماما .
وهناك بعض الصور ” الثقافية ” المستولدة من اللعب باللغة ، أو التأمل الخاص ( المثقف ) أو استيراد كلمات وصياغات ” نحوية ” هي جميعا لا تملك القدر المطلوب في ألوان التعبير الشعبي ورائحته ، وبهذا تظل ملكا للشاعر وحده ، ولا تنتمي لشخصياته ، أو للحدث الذي تصوره ، كأن يقول : قرَّبّت من كتر الملل … أنسى أمِلّ(41) ، وكأن يقول معبراً عن أحزانه تجاه ما جرى للكويت بصفة خاصة :
مأساتي إني حزين
أحزان من اللي ماهيش رفاهيهْ
ودموعي مش مَيَّهْ(42)
إن المساحة شاسعة بين : ” دموعي مش ميه ” بما فيها من حس شعبي ، وعرف أدائي ، وصدق نفسي ، وبين : ” أحزان من اللي ماهيش رفاهية ” ، بكل ما تدل عليه من استعلاء ورفاهية التعبير . ومثل هذا يقال على :
الموت يا رب راحهْ
من وِسْع الاستباحه
…
واشتغلت المناحهْ
على السكك المُتاحه(43)
وينبغي أن نوضح هنا أننا لسنا ضد ” الصياغة المثقفة ” أو “الصورة الراقية ” – إن ضح القول – في العمل الفني الشعبي ، إننا ضد التفاوت في النسيج اللغوي ، ضد التباعد في استمداد مصادر التعبير ، لأن هذا يؤدي إلى انكسار في المسار ، وتعطيل في استقبال الشعور .
ونقدم أمثلة من صور ” مثقفة ” أو من ” المدنية ” ، لكنها استطاعت أن تلتحم بالنسيج العام ، وتندغم في اللحظة الشعورية ، وتؤدي وظيفتها الإيجابية في توجيه الانفعال . هذا عبد العال يصف رحلة العناء والخيبة ، وصدمته المؤلمة بما جرى له في العراق ، ثم في الأردن ، مع كل ” مزاعم ” الأمة الواحدة :
يا سكة الرويشد
نارك مسلياني
ومبروكه اللي ساكته
دموعها معرياني
والجتت اللي ف طريقي
بموتها با بِلّ ريقي
بعفنها مونساني
وأفكر في الجريمه
وأحلامي القديمه
وأقول دي أمه سيما
بتعرض فيلم دامي
أمه .. في حاجه ماسه
لزعيم يكون حرامي(44) !!
إن هذا الاقتباس مناسب تماما لما نحن بصدده ، من إمكان استمداد مصادر التعبير المختلفة أو المتفاوتة ، واستجلاب الصور من مستويات ذهنية ومادية ، ومع هذا يمكن أن ” تتآلف ” ، قبل أن ” تتألف ” ، ليشيع فيها مستوى واحد من الفكر والشعور . ” نارك مسلياني ” هذا تعبير شعبي تماما ، يعرفه ويلجأ إليه لفلاح المنقطع في حقله إذا احتواه جنّة الليل ، و”دموعها معرياني ” صورة مجازية ارتقت بالإحساس الداخلي للشخصية ، وظلت في طاقة تعبيرها الممكن عن الشعور بالعجز والعار ، ومثل هذا يمكن أن يقال عن ” أمه سيما ” ( يعني حياتها وهمية ، وواقعها منفصل عم تنادي به ، وكأنها تمثل في السينما ) ، بعكس هذه الصورة العميقة المركبة التي تحتاج – لكي نسوّغها ونصدقها – إلى أعمال الفكر وقدرة التأويل :
والجتت اللي ف طريقي
بموتها ببل ريقي
بعفنها مونساني
هذه أمور – للوهلة الأولى – مستبعدة ، بل مستنكرة ، بصرف النظر عن جانب التقزز ، فالجمال الفني يمكن اكتشافه في القبيح والمقزز ، وقد تحقق هذا هنا ، ثم نعود إلى ما يبدو من معاكسة الدلالة ، كيف يكون موت هذه الجثث مصدرا للحياة أو بل الريق ؟! وكيف يكون العفن مؤنسا ؟! هناك رد فعل عضوي للرعب ، هو ازدراد الريق ، ورد فعل نفسي حين مواجهة دلائل الفناء هو تجدد الحرص على الحياة ، ومقاومة المصير المرتقب . أما كيف يكون عفن الجثث مؤنسا ، فلأنه يدل على أنه كانت ها هنا حياة ، وكان هذا طريقا مسلوكا ، ولكن الأشاوس قتلوا الهاربين عليه . ومثل هذا يمكن أن يقال أيضا في التصوير التهكمي للنزاع المستجد في المنطقة العربية ، وكيف يضرب بجذوره في التاريخ ويدخل عناصر جديدة لا قبل لنا بها :
صبّحَ الدولار القِبله والقُدوه
صوت الحكمة انخفض
صوت الدولار عِليِ
ناس بتموّل أمته
وناس بتمول عِلِي
ويا هلِي يا هَلي(45)
إن الإشارة التاريخية ” المثقفة ” هنا للخلاف بين علي ومعاوية ليست خروجا على شرط الشعبية ، فهو مشهور كثقافة دينية عامة ، بل هو بالنسبة لمنطقة النزاع ( العراق والكويت ) في مستوى الإدراك المباشر لوجود طائفتين من الوجهة المذهبية ، والإضافة التي تحتاج إلى تأمل هي في أن ” معاوية ” الجديد ، و ” علي ” الجديد لا يتحاربان من أجل اختلاف في المعتقد ، أو إيمان بحق عام ، أو شخصي ، وإنما يصدران في صراعهما الجديد عن مؤثر خارجي يغريهما بالتمرد على صوت الحكمة !!
ثم نقول أخيرا – استناداً إلى دليل الخُلف – إن الصور التي نستبقها ن وهي الكثرة ، قد تحقق فيها ما افتقدناه في بعض الصور مما سلف ، وما احتاج إلى جهد في إظهاره حيث تداخلت معه عوامل عوقت وصوله إلى مداه ز بل إننا نقول إن هذا العمل الفني قد اكتسب قيمته الشعرية من سلاسل الصور النادرة التي شغلت مساحة واضحة من صفحاته ، وأسفرت بشاعرية وحس دافق بالصدق عن أفكاره ، وتحقق في هذه الصور الشرطان الأساسيان : صدورها عن تجربة الشاعر الخاصة وتماسكها في أنساق أو منظومات لا يصدم بعضها بعضا ، بل يؤازره ويعمق الانفعال المثار في ذات الاتجاه .
وبصفة عامة نقول إن الطبيعة هي المصدر الأساسي ( وربما الوحيد إلاّ في استثناء قليل ) لهذه الصور ، وإن التشبيه هو الشكل الأكثر مثولا ، مع إضافات أكسبته الامتداد ، والقوة والحيوية . على أنه استخدم بعض صيغ الاستعارة ، والكناية ، ورسم صورا بالكلمات في أكثر من سياق .
قد نجد صورة التشبيه واضحة مباشرة ، في هذا التعبير عن اتفاق طبعه مع صديقه :
لما يتقبنا الــــزمن نصبـــح نايات(46)
أو هاجس عبد العال في توقع الكارثة :
قاعــــد أنا ع الجســــر فـــي القيّالهْ
الرحمه من قلب اللهـــيب متشـــاله
باطل على حالي
وقلبــــي ســــاقية حــــزن سيّـــالهْ
باغني ، ما اعرف مغني وإلا عديد
زي افتكار الميّتين .. في العـيد(47)
ومع جودة التشبيه الأول ، وانتمائه إلى الطبيعة ( الريفية ) فإن التشبيه الثاني أرقى فنيا ، لم ينتقص هذا وجود أداة التشبيه ( زيّ ، وتعني مثل ، وهي البديل العامي عن كاف التشبيه ) لأن السياق الذي جاءت فيه أقوى تماسكا ، فجاء التشبيه صورة مستقلة ، هي في نفس الوقت جزء من صورة أكثر اتساعا ، ثم هي صورة نفسية ، وليست مادية ، لها وجه حسيّ ، إذ تعتمد على حاسة السمع . إن جلسة الجسر في لهيب القيلولة ، وامتزاج أنين القلب بأنين الساقية ، هو الإطار المناسب ، في تناقض الظاهر أو الشكل ، والمضمر أو المحتوى ، لما هو بكاء وغناء ، أو تذكر الأموات الأعزاء في يوم عيد ، والتعديد عليهم .
إن امتداد الصورة خاصة مميزة من خواص الموهبة المتمكنة ، ولن يتحقق تأصيل جو القصيدة ن وتعميق صلة التلقي بما تمثله من رؤية بمجرد اصطياد صور التشابه ، والتنقل بينها ، إن هذا قد يؤدي إلى عكس ما هو مطلوب ، إذ يشتت الانفعال ، ويصرف عن الاهتمام بالقصيدة ، وما تنطوي عليه إذا أمكن أن تنطوي على شيء ذي قيمة . وقد طوّر الأبنودي تراكيب صوره ، من تشبيهات واستعارات وكنايات بطريقة طيبة ، يمكن أن نقرّبها ببعض الأمثلة :
أ- حين يصور العلاقة الحميمة بأخيه ( صديقه ) وكيف عمقتها الشدائد يقول :
كل ما الأحوال عصرتنا بقوّهْ
كل ما ازدادت أخوّتنــا أخوهْ
القمر لما بيجي الليل
هل بيفضل هوّه .. هوْه ؟(48)
إن صورة التشبيه واضحة ، لكنه تصرف في تشكيل طرفي العلاقة ( المشبه ، والمشبه به ) على نحو مثير ، وجميل ، لأنه لم يفقد – مع ألفته – تأثيره على الإدراك ، بل قوى من خلال اعتماده على القياس .
ب- وفي رفضه للموقف المماليء الانتهازي ، تظهر الانتهازية في صيغة أخرى من صيغ التشبيه المتقنة :
اذكروني .. لأني كان ممكن أعيش
وابقى طاووس يختفي صوته القبيح في أحلا ريش ..
بين طواويس الوطن
الربيع يخضر أكثر في العفن(49)
لقد اختار الطاووس مشبها به ( مرفوضا )وكان ضروريا أن ينصّ على المقارنة في دلالة الطاووس ، ويأتي التوفيق والجمال في صحة المقابلة بين جمال المظهر وتفاهة المخبر ، وأن العيّ في اللسان ( وهو عدة الشاعر ) ثم يعقب على التشبيه بهذا التذييل الكنائي ، بما يساند هدف التشبيه أو المعنى المستخلص منه ، فالخضرة والعفن ، يقابلان الريش والصوت في الطاووس وفي هاتين الصورتين المتساندتين استخدم حاستي السمع والبصر ، واعتمد على البرهان ، والمشاهدة .
ج- وقد يأتي تذييل الصورة بنقيض ، فيكون التهكم والسخرية ، الذي يقوي الإحساس بها ، وينقضها في نفس الوقت ، فها هو ذا ” الزعيم ” يباهي بقوة رجاله ، ويشبههم ( في صيغة استعارة ) بالثيران :
وعندنا تيران
مقطعه الحبال
تهجم على النسوان
وتموّت العيال(50)
فالثيران – جنود الزعيم – لا تنازل الرجال – كما نتوقع من الزعيم في وصفه لرجاله وكما ينبغي أن يكون الحال ، وإنما تهاجم النساء ، وتقتل الأطفال ، فهذه صورة كاريكاتورية في ذاتها ، ويزيدها تناقضا أن الزعيم يباهي بها ، ويهدد . وقد يلجأ الأبنودي إلى خلق نوع من الالتباس بين الدلالة الشعبية ( العرفية ) والدلالة المعجمية للكلمات ، فتتولد الصورة التهكمية أيضا ، فحين يعجب عبد العال بخطب الزعيم وخططه في مهاجمه إسرائيل ، يعبر عن إعجابه بقوله :
أموت أنا في الزعيم
لما يكون لئيم(51)
فالموت له دلالة لغوية نعرفها ، ودلالة عرفية هي المقابل لـ ( أذوب في هوى الزعيم ) وكذلك الوصف باللؤم الذي يعتبر صفة مدح ، لأنه لا يعني خسّة الطبع ، بل الدهاء وهو هنا الدهاء السياسي في محاربة العدو .
د- وقد يرسم الأبنودي صورة بالكلمات ، دون استخدام للصور المجازية ، وهوي بدع في هذا المجال أيضا ، نجد هذا في إنكار ” الزعيم ” لوجود وطن على الخريطة اسمه الكويت ، إنما كان ما نراه مجرد غبار على اللوحة مسحه بكمه ، فانجلى عن حقيقته المغايرة :
كان عالخريطة تراب
مشينا فوقها الكُم
دي مش الكويت يا عبيط
دي الكاظمية الأم(52)
ومثلها قول عبد العال في مرحلة إعجابه المتزايد بالعراق الذي فتح له الباب ، ومنحه الأرض ، واحتفى بقدومه :
لو كوّموا العرب
كلتهم في الميزان
يغلبهم العراق
ويزيد عنهم كمان(53)
هـ- ويستخدم الشاعر الصورة المقلوبة ، ( أو التشبيه المقلوب ) في شكل استفهام إنكاري ، ليس بطبيعة صياغته صورة ، لكنه يوحي بها ، في سياق تهكمي حزين ، وذلك حين يتساءل الشاعر :
ده وطن ده .. والاّ فخّ ؟(54)
هذه أهم أنماط الصورة المستخدمة ، أما الندرة والأصالة فقد تجاوزتها إلى عدد من الاستعارات والكنايات ، مثل : ” دي بلاح حاقزقزها ” ، ” وسافرت الابتسامة ، ومارجعتش البلاد ” ، ومن النادر الطريف هذه الكنايات :
قاعد أنا والشمس كلها غلّ
بيستخبّى تحت توبي الضل
و : جبنا بطل بالإيجار
و : لزق القميص م العرق
مفزوعة ، يفلت من قدمها الخف
و : وجبت كُلِّي .. عمومي
هجيتْ بره هدومي
ومهما يكن من تنوع أشكال الصور ، وطاقتها في الامتداد ، فإنها – بصفة عامة – ظلت تصدر عن أصل هو طبيعة الموضوع ، وتنبع من أساس هو التجربة الشعبية مع اللغة ، ومع الحياة .
(4)
وتبقى أربعة أمور ختامية ، يتصل أمران منها بالبناء الفني ، وبالجانب التصويري في ديوان ” الاستعمار العربي ” ، ويتوجه الآخران إلى الفكرة في الحكاية قصداً :
الأمر الأول : يتعلق بصيغ الحوار في سرد الحكاية ، ولم نبادر إلى طرح هذه الخاصية حين عرضنا للطابع المسرحي في تقسيم الحكاية ، أو الطابع الدرامي في تطوير الفكرة من خلال تناقض الإرادتين ، وتعارض القول مع الفعل ، ذلك لأن تفنن الأبنودي في صيغ الحوار يتجاوز طاقة الشكل المسرحي على تقبلهما ، فضلا عن أن الحوار وإن يكن التجسيد النهائي للمسرحية ، فإنه ليس وقفا على المسرح . إن الشاعر ماثل بنفسه ، هو المتكلم في البداية ، ولكن اختلاف المخاطب – من خلال توجيه الكلام – يجدد المشهد ، وكأن المتكلم بتغيّر ، كما نلاحظ في : ” أيها الشعب العراقي ” ، ثم يخاطب الجندي بصفة خاصة ، الجندي الذي يمارس النهب في الكويت :
كنت جندي حرب مبعوت في مهمه ؟
والا بتمارس الوضاعة بكل ذمـــه ؟
كلكم صدام يا صاحبي(55)
وحين يقول : يا صديقي (ص26) فإنه يكون قد وجه خطابه وجهة أخرى وغيّر المشهد وحين يقول : يا رفقتي (ص107) فإن تغييرا آخر يكون قد تمّ . بل إنه يخاطب العراقي باسم متحدث مصري مضمر ، ليس هو الشاعر ، ويخاطب الأمريكي (ص47) ، هذا فضلا عما قاله الزعيم ، وأفضى به عبد العال ، أو خاطب به زوجته مبروكة ، وما أسنده كذلك إلى المغني مفتتحا بكلمة ” هكذا قال المغني ” . أما حين يقول : ” اذكروني ” فإن المخاطب هو الأمة العربية في مجموعها . فإذا خاطب العنكبوت بصيغة النداء فإن هذا يستدعي المنادي ( المخاطب ) ويشكل مشهداً خاصا .
وهناك نوع آخر من الحوار ، يلاحظه من يستعيد تطوير الحدث ببطء ، ويقابل بين المواقف إنه حوار المواقف الذي تحقق أحيانا ، ولو أن الشاعر تنبه إلى هذا الأمر لبلغ عمله هذا درجة من الجودة يصعب بلوغها . لقد قابل بين حال مصر في مساندة قضايا العروبة ، وحال هذه العروبة في التخلي عن مصر ، وقابل بين مشاعر المصري تجاه العراق ، ومشاعر أهل العراق تجاه المصريين ، وقابل بين أحلام عبد العال الوردية ، وإيمانه القومي حين هاجر ، ويأسه المرير وكفرانه بكل ما هو عربي حين عاد عاريا مسلوبا مزعزعا .. بل رسم صورة – بطريقة إنكارية طريفة ساقها على لسان الزعيم – لما كانت عليه الكويت من ازدهار واستقرار ، وما آلت إليه حين اقتحمها المخربون . كان يمكن لحوار المواقف هذا أن يبلغ ذروته لو أنه روعي لحركة درامية تنبع من ترتيب الحدث المتنامي ، وليس من انفعالات الأشخاص .
الأمر الثاني : الذي يتصل بصورة هذا العمل الفني يتجسد في قصيدتين ختاميتين ، جاءتا في ختام حكاية الأحداث ، كأنهما بكائية يتغنى بها ” الكورس ” بعد تمام الفجيعة في تراجيديا إغريقية انتهت بالدمار الشامل للجاني والضحية ، بعد أن حلت لعنة الآلهة لتفريط الجميع . إن القصيدة التي تبدأ بمناجاة العنكبوت من عيون الشعر الذي قيل في هذا الحدث الدامي موضوع الديوان ، وهي تحتاج إلى عناية خاصة ، ولا نعتقد أنها على جمالها الفني ، وامتدادها ، قد عوقت تدفق الحدث ، لأنه كان قد اكتمل بوقوع الكارثة ، فجاء هذا النشيد الختامي ن وكأنه تعليق الكورس كما قدمنا .
أما القصيدة الأخرى ، التي تبدأ بقوله : ” ويا رفقتي ما دام أتت أحداث “(56) ، فإنها تعكس الطريقة تماما ، مع أنها تأتي في أعقاب سابقتها دون فاصل ، فهي ليست رمزية كسابقتها ، وطابعها جدلي قائم على تناقض الحكم بين التصوير والفعل ، وهذا يعني أنها تخلت عن الغنائية الآسية المتحققة في قصيدة ” العنكبوتة ” . وصحيح أن هذه القصيدة الأخيرة قد قدمت الرد على ” الأخ ” الماثل في الصفحة الأولى من الحكاية ، وأعادت إليه مزاعمه ، فهي أقرب إلى طبيعة الختام ، لكننا نعتقد أنها لو تبادلت موقعها مع سابقتها ، فإن شاعرية الختام ن واسى التعقيب النهائي كان سيكون في صالح الارتفاع بذروة التوتر الروحي إلى غايتها ، وإفساح الطريق لشجن التلقي أن يمتد ويتفاعل .
ثم يأتي الأمران الآخران اللذان يتصلان بالجانب الفكري أو موضوع هذا الديوان ، أولهما جزئي يتصل بترتيب الأفكار والصور الجزئية ن وقد كان التوفيق يحالف الشاعر في كثير من الحالات ، ولكن إغراء التدفق والسرعة كانا يصرفانه عن تأمل هذه الجوانب الجزئية التي يهتم بها النقد في حفاوته وبالوحدة العضوية في القصيدة ، وفي اهتمامه بالتركيب الدرامي ، الذي يستلزم ترتيب الأفكار والمشاعر ترتيبا تصاعديا ، يعلي من توتر الانفعال ، ولا يتراجع به .
فمثلا حين يصف الشاعر أخاه ( صديقه ) بمجموعة من الصفات ، نراقب كيف سردها :
كان رفيقي
وكان شقيقي
وكان طريقي
وكان بريقي
وكان يواسي في المحن(57)
وربما كان الترتيب التصاعدي ، الذي لا يخلّ بالإيقاع ، ويجعل الانفعال في حالة من التزايد :
كان رفيقي
وكان طريقي
وكان بريقي ( وربما : رحيقي )
كان شقيقي ( دون الواو )
وكان يواسي في المحن ( بغير واو أيضا )
أما حين يعلن رفضه لتزييف الحقائق من حوله ، فإنه يقول :
الوداع يا صــــوتي ما عدتش أصيلْ
الوداع يا قلبــــي مـــانتاش قلب نيلْ
الوداع يا طين بلادي يامِش جميل ..
الوداع يا نيل أنا مش شـــــاعرك ..
ولا في إمكــــاني هز مشاعرك(58)
فهنا يبدو الترتيب أقرب إلى الدقة ، وبذلك يتبين الفرق ، وما نريده من مراعاة التصاعد غير أن الاضطراب يظهر مرة أخرى في وصفه لأفعال جندي العراق الشنيعة :
كان بيكرهني بأصالهْ
كان يجزّ على السنان
يطعن عيون طفلي ببسالهْ
يجرع المأساة لثمالة الثمالهْ
يطلق الألفاظ قواميس الحثالهْ(59)
فهذا تصوير مضطرب أفسد احتشاد المشاعر وبلوغها غاية طاقتها مع بلوغ الصورة منتهاها ، فإذا كان هذا الجندي الهمجي قد مارس في أول شطر طعن عيون الطفل ببسالة فهل يوصل هذا التعميم المائع في الشطر التالي إلى شيء ؟! وهل يعاب على جندي قتل طفلا بطعنه في عينيه أنه أطلق بعض الشتائم مهما كانت قذرة ؟!
ثم ننظر بم أوصى ” الزعيم ” جنوده حين وجههم إلى الكويت :
ننزل كما الليل البهيم :
نفتح الخزنات
وناخدوا القرشينات
ونفضُّوا التلاجات
ونغتصب الحريم(60)
نعتقد أنه بعد سرقة ما في الخزائن ، يصبح انتهاب ما في الثلاجات هامشيا لا يستحق الذكر ، ومن ثم كان الأوفق تبادل الموقعين بهذا الخصوص ، ثم هناك أمر آخر ، فالخزائن هي التي تفض ، لأنها مغلقة على أسرار ، أما الثلاجات فهي التي تفتح ، فها هنا تبادل آخر واجب .
ثم يأتي الأمر الأخير ، الثاني فيما يتعلق بالموقف الفكري في الديوان ، ولا نحب أن نطيل وقفتنا معه ، ونكتفي بالإشارة ، لقد حرص الشعر الفصيح على أن يجنب الأمة العربية هجاءه بشكل شمولي ، وهو يهاجم قائد العراق ، بل هناك من وضع اللوم كله على صدام وحده ، وراح يستنهض الشعب العراقي . وهذا ما فعله – في بعض المواقف – الشاعر الأبنودي ، ولكنه عم بهجائه أهل العراق ، ورأى في جند صدام صورة منه ، بل عم الأمة باتهامه لها بالخذلان ، وندم على حبه لها ، وعمله في سبيل وحدتها ز إن هذا موقف غضب ، والغضب ليس رأيا ، ولعل هذا كان إحساس الشاعر المصري إبان المحنة ، فللشاعر فيما أبداه بعض الحق ، لكنه وقد أبدع عملا فنيا جميلا ، كان ينبغي أن يفكر فيما سيتركه عمله هذا في ضمير الأجيال التي ستقرأ ما جرى على أنه سطر في تجربة أمتنا الموعودة بالجراح والتجريح في كل عصورها ، ولم تكن في حاجة إلى من يسجل عليها لحظة ضعفها ن حتى وإن كانت المعاناة منها ، في مصر بخاصة ، تتجدد ، بل لا تكاد تنقطع ، حتى الآن .
* * *
الهوامش والمراجع :
- يرجع في الفرق بين الخلق والتعبير : رشاد رشدي : مقالات في النقد الأدبي – مكتبة الأنجلو المصرية – 1962 .
- عبد الرحمن الأبنودي : الاستعمار العربي ، المركز الإعلامي الكويتي – القاهرة 1991 – ص116 .
- وقد قامت دراسة مصطفى سويف : ” الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ” على هذا الأساس ، وهو المقابلة بين الصور الأولى الخطية ( بروفات ) لقصائد عدد من الشعراء ، وصور هذه القصائد كما نشرت في دواوينهم بعد ذلك ، وما جرى لها من تبديل كلمات ، أو حذف أبيات ، أو تغيير موقع بيت .. إلخ . ومثل هذا فعله من وجهة نقدية ( وليس سيكولوجية ) شوقي ضيف ، في كتابه : ” شوقي شاعر العصر الحديث ” انظر من هذا الكتاب : ” بين البديهية والتنقيح ” ص58 وما بعدها .
- نشرت قصيدة ” أوراس ” في مجلة الآداب البيروتية إبان حرب التحرير الجزائرية بصيغة تختلف عنها في ديوانه الصغير الذي حمل اسمها – نشر دار أخبار اليوم – القاهرة 1989 .
- الاستعمار العربي : ص115 .
- ” الكويت في عيون الشعراء ” قصائد مختارة من وحي الاجتياح الغاشم لكويت . نشر الديوان المركز الإعلامي الكويتي ، القاهرة : يوليو 1991 .
ومن أهم شعراء هذا الديوان من مصر : فاروق شوشة ، فاروق جويدة ، حسن فتح الباب ، أحمد غراب ، محمد التهامي الذي جمع قصائده وأضاف إليها ما يناسبها موضوعا ، وأصدرها في ديوان خاص بعنوان : دماء العروبة على جدران الكويت ، القاهرة – 1991 .
- محمد غنيمي هلال : النقد الأدبي الحديث – ط4 – عام 1969 ، ص384 – 386 .
- لسان العرب : مادة ” قصد ” .
- وللشرط الأول استحدث مصطلح ” الموشحات ” نظرا لوزن ، ومقطعه أو مقطوعة لما دون سبعة الأبيات ، للسبب نفسه ، وإذا كان الشكل قصصيا حواريا سميت ” قصة شعرية ” ، وهو أدق من إطلاق ” قصيدة قصصية ” فهذا الخير يصدق حين يكون الشاعر حاضرا تماما في قصيدته ، ومع هذا أخذت سياقا قصصيا ، مثل قصيدة عمر بن أبي ربيعة في صاحبة ” نعم ” ليلة ذي دوران ، المشهورة .
- فالملحمة قصة بطولة فردية أو جماعية ، بطولة تستهدف تحقيق مثل أعلى ، أو الانتصار للخير ، وهو ما لا وجود له في كارثة احتلال الكويت .
- الاستعمار العربي : ص13 – والجخ : المبالغة في القول وادعاء أشياء عظيمة لم تكن .
- الاستعمار العربي : ص6 – ” وظبطني ” تعني الإخفاء ، والمفاجأة ، مما يدل على أن الآخر لم يكن حزينا ( لعله كان مسروراً !! ) وأنه لا يريد أن يرى موقفا أو شعورا يخالفه .
- الاستعمار العربي : ص68 – وإلحاق ” ال ” التعريفية لإيران محاكاة لطريقة الفلاحين في تسمية الأماكن والناس ، فهنا تناسب بين ” ال ” العراق ومثلها في الإيران !!
- الاستعمار العربي : ص110 – 111 وهذه القطعة من القصائد النادرة التي وصمت المواقف الانتهازية لطائفة من أدعياء المبادئ المتشرقين بالتقدمية ، وفيما قرأنا من شعر المحنة ، لم يتوغل شاعر في هذا الاتجاه ، من أصحاب الشعر الفصيح ، غير الشاعر عبد الرحمن صالح العشماوي في قصائده : رسالة إلى رجل لم يفاجئنا ، عيناك خارطتا ذهول ، فتحت بوابة الشمس . انظر نص هذه القصائد في : ” الكويت في عيون الشعراء ” ص 259 – 266 والطريف أن الأبنودي يطلق على هذا الانتهازي في بعض أقنعته وصف ” المغني ” ، وللإسم دلالة لا تخفى !!
- الإشارة هنا إلى العنكبوت ، وفي القرآن الكريم : ” وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ” – الآية 41 من سورة العنكبوت .
- الاستعمار العربي : ص103 وتأمل بلاغة الصياغة في هذا المقطع ، في دلالة النداء ، والبدء بالواو العاطفة على طريقة ” التعديد ” ، وتأنيث العنكبوتة ( هي تاء الوحدة ) وما يدل عليه من الهوان ، وأنها جاءت لتتكاثر ، و” كملّي وما تعنيه من أن الخراب قد بدأ بالفعل ، ولم يبق إلا اكتماله . وكاف الملكية في ” عشك ” ، ثم سلسلة الصور التي تجسد حالة استقرار العناكب وتمكنها في المكان ، واستهانتها بنا !!
- نذكر هنا أن شوقي ضيف ألف كتابا بعنوان : ” الشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور ” ( دار المعارف – القاهرة 1977 ) ولم يربط الطابع الشعبي إلى اللهجة بل إلى التعبير عن الجماعة . انظر مقدمة الكتاب المذكور ، وفيها يؤكد أن الشعر العربي أكثر شعبية من الشعر العامي ( الزجال وما يشبهها ) إذ تولى الشعر الفصيح التعبير عن الوجدان العام وهموم الأمة ، واتجهت أشعار العامية إلى الفكاهة والهزل ، ونادرا ما تفارق هذه الدائرة .
- الاستعمار العربي : ص13 .
- ابن منظور المصري : لسان العرب ، مادة : ” ج خ خ ” .
- عن لهجات الكويت يراجع : عبد العزيز مطر : خصائص اللهجة الكويتية ، وليلى السبعان : تطور اللهجة الكويتية . أما قلب القاف خاء في [ دلوخت ] فقد لاحظته في بعض أقاليم محافظة الفيوم ، وهو منتشر في مناطق من صعيد مصر أيضا .
- الاستعمار العربي : ص16 .
- الاستعمار العربي : ص24 .
- يراجع في هذا ومثله ديوان البهاء زهير ، والشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور لشوقي ضيف ، وعصر الدول والإمارات ( مصر والشام ) لشوقي ضيف أيضا .
- الاستعمار العربي : ص33 .
- الاستعمار العربي : ص 49 ، 50 .
- الاستعمار العربي : ص79 .
- الاستعمار العربي : ص89 .
- الاستعمار العربي : ص94 .
- الاستعمار العربي : ص 27 ، 32 ، 34 .
- الاستعمار العربي : ص 47 ، ونلاحظ دقة اختيار المفردات في التعبير عن جمود الموقف في أعقاب حشد قوات التحالف في الخليج ، وضيعة العربي ( ممثلا في الشاعر المصري ) الذي ” غرز ” في الوحل وغاص في الهم وحده ، ولا يرى في الأفق حلا لقضية الكويت .
- الاستعمار العربي : ص52 ، 53 .
- الاستعمار العربي : ص 52 ، 53 .
- أحمد رشدي صالح : الأدب الشعبي ، ط3 ، مكتبة النهضة المصرية ، عام 1971 .
- نحن نرى أن الصورة هي جوهر الشعر وعلاقة تفرد موهبة الشاعر ، وقد شرحنا هذا في كتاب : الصورة والبناء الشعري .
- كان هذا جوهر ما أخذه العقاد – في الديوان – على شعر شوقي ، وبخاصة في عبارته الشهيرة : ” فاعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها ، وان ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه ، وإنما مزيته أن يقول ما هو ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به ” الديوان ص3 – دار الشعب بالقاهرة .
- والمثل ” التاريخي ” المشهور لهذا المنحى في العلاقة ما أجاب به ابن الرومي حين وجد من يستحثه – على جودة تشبيهاته – على أن يسمو بموضوعات صوره مثل ابن المعتز ، فقال : هذا كان يصف ماعون بيته !! وعن ابن الرومي أيضا ألف العقاد كتابه بعنوان : ” ابن الرومي : حياته من شعره ” وكذلك فعل مع أبي نواس – نسبيا – فكأن الشعر مدخل للمعرفة بالشاعر .
- وهذا ما اعتمدته الباحثة كارولاين سبيرجن في دراستها عن الصورة في شعر شكسبير المسرحي ، التراجيدي بخاصة ، فقد كشفت عن المستوى الموحد ن والإطار المشترك ، في مجموع صور المسرحية الواحدة ، كما كشفت عن أثر ذلك في تثبيت جوّ المسرحية وتعميق عناصر الصراع ، وتحديد نوع الصراع فيها وطبيعته . انظر : الصورة والبناء الشعري ص113 .
- أول من أعمل مبدأ ” المقاصة ” صراحة ، وذكر اللفظ بنصه ، القاضي الجرجاني في مدخل كتابه : ” الوساطة بين المتنبي وخصومه ” ، فالشاعر المتميز ليس من لا يقع في خطأ، وإنما من إذا أجريت المقاصة بين إجادته وسقطاته ، تفوق عنصر الجودة .
- الاستعمار العربي : ص33 .
- الاستعمار العربي : ص66 .
- الاستعمار العربي : ص50 .
- الاستعمار العربي : ص51 .
- الاستعمار العربي : ص92 .
- الاستعمار العربي : ص 92 ، 93 .
- الاستعمار العربي : ص 121 .
- الاستعمار العربي : ص15 .
- الاستعمار العربي : ص 49 .
- الاستعمار العربي : ص14 ، 15 .
- الاستعمار العربي : ص25 .
- الاستعمار العربي : ص45 .
- الاستعمار العربي : ص84 .
- الاستعمار العربي : ص45 .
- الاستعمار العربي : ص55 .
- الاستعمار العربي : ص29 .
- الاستعمار العربي : ص22 .
- الاستعمار العربي : ص107 .
- الاستعمار العربي : ص15 .
- الاستعمار العربي : ص16 .
- الاستعمار العربي : ص22 .
- الاستعمار العربي : ص46 .