المقالة
الحب في زمن الكورونا
– 1 –
يدين هذا اللواذ [ الاحتماء بـ/الهرب إلى ] للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل ، وكانت روايته التي كتبها بعد حصوله على الجائزة العالمية الرفيعة .. بعنوان : “الحب في زمن الكوليرا” ، وبين الكوليرا والكورونا [ يا قلبي لا تحزن ]!! . وفي العنوان “مفارقة” ، و”اتفاق” ، العاشق سعيد ، وإن كان سعيداً بشقاء الحب ، والمريض على نقيضه ، ورغم هذه المفارقة فبين الحب والمرض علاقة تجاذب، ولعلنا نتذكر – في هذا السياق- رواية “الطاعون” للأديب الفيلسوف الوجودي الفرنسي (ألبير كامو) وفيها اجتمع الوباء، والحب، والحرية بوشائج إرادة الحياة !!
في رواية ماركيز تأخذ قصة العشق بين الفتى والفتاة مساراً خفياً متعثراً ، مختلطاً، إلى أن يسفر عن نفسه – بعد زمانه – فيأخذ مسار المرض المتمكن . وفي هذه الرواية – ذائعة الصيت- أمورٌ عديدة احتفى بها النقد ، واستطرفها القراء .. وإذا كانت هذه اللواذه مدينة لماركيز مع تحريف يسير ؛ فإن الدكتور محمد دياب الغزاوي – الأستاذ بجامعة المنيا – أصدر ديواناً بعنوان : “الحب في زمن الكورونا” ، فهو سابق إلى الاقتباس ، الذي اجترحناه . وفي هذا الديوان ستون قصيدة من الشعر العمودي ، والشعر الحر ، رتبها صاحبها على أساس (القافية) شأن الدواوين التراثية ، ومع تنوع موضوعات القصائد ما بين الرثاء، للراحلين، وشكوى الوباء، وتحية الجيش الأبيض .. إلخ ، فقد ظل (العبق) التراثي البلاغي حاضراً بقوة في هذا الديوان (الأكاديمي) .
– 2 –
وتتوارد على الخاطر عبارة للعقاد تقرر : أن إعادة قراءة كتاب تفيد المثقف أكثر من قراءته لكتاب مختلف !! ولعلي تشككت زمناً في هذه المقولة . ربما كان هذا بفعل العمل بالتدريس الجامعي ، فاللهاث وراء المعلومات ، ومحاولة الإحاطة بالجديد ، والمستحدث، لابد أن تكون على حساب إهمال أو إغفال القديم أو السابق .. غير أن تجربتي المباشرة في إعادة قراءة كتاب : “طوق الحمامة ” في الألفة والأُلاف” للإمام الفقيه ابن حزم الأندلسي؛ أكدت صواب المقولة العقادية . غير أن الناقد الإنجليزي ريتشاردز في كتابه ” مبادئ النقد الأدبي” حدد منهجه في نقد الشعر بصفة خاصة ، فألزم الناقد بأن يقرأ القصيدة ، أو الديوان – موضع النقد – عشر مرات على الأقل ، قبل أن يبدأ محاولته النقدية .. إذ رأى ريتشاردز بحق أن القصيدة الجيدة ، ومن باب أولى : الديوان المتميز – لا يسفر عن نفسه مع القراءة الأولى ، وربما ظل عصياً إلى القراءة العاشرة ، وما يصدق على الديوان ، يصدق على القصيدة الواحدة . وتبلغ الطرافة مداها حين نعرف من سياق عبارات الناقد الإنجليزي أنه لا يعني قراءة القصيدة عشر مرات، وإنما يعني : عشر مرات متباعدة زمنياً بدرجة ما ، وفي كل مرة من هذه المرات العشر يقرأ الناقد القصيدة بضع مرات متتالية ، فتعد مرة واحدة ، فكأن خلاصة القول أن ريتشاردز لا يبيح للناقد أن يكتب عن قصيدة إلا وقد حفظها أو كاد، فأصبحت سلسة على لسانه، واضحة باستهلالها، وختامها، والعلاقة بينهما، وبمراحلها الموضوعية، وبنيتها الصوتية، وصورها، وكأنما يقرؤها مكتوبة ، وهذا – فيما أرى – غاية المتمني ، التي نحاولها ولا نبلغها ..
– 3 –
في عام 1980 ألفت كتاب : “الحب في التراث العربي” ، وقدمت مخطوطته إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون بالكويت، ليُنشَر في سلسلة “عالم المعرفة” ، وأذكر فيما يخص هذا الكتاب بعض الأمور الطريفة؛ فقد اطلع على نسخته الخطية الدكتور فؤاد زكريا – مستشار السلسلة – وكان بالنسبة لي أستاذا وصديقاً ، وكنت قد اخترت عنوانا وصفياً تقليديا: “الدراسات العاطفية في التراث العربي” ، فرفض الدكتور زكريا هذا العنوان، غير الدقيق، وغير اللافت، على الأقل – كما علمني حينها– أن العاطفة تعني الانفعال، فكل انفعال جاوز الاعتدال هو عاطفة ، ثم قال : لماذا ندور حول الأشياء ، ولا نسميها باسمائها المباشرة؟ فكان :”الحب في التراث العربي” من اختياره ، وأحسب – وليكتب الله سبحانه هذا في حسناته – أن هذا العنوان في ذاته كان أساساً في شهرة هذا الكتاب ، الذي طُبع منه – حسب المذكور على غلافه الداخلي – خمسون ألف نسخة !!
وأذكر كذلك أنه حسب أنساق العمل في السلسلة المذكورة ، يتم اختيار اثنين من الأساتذة لمراجعة المخطوط ، ووضع تقرير: صلاحية أو عدمها .. عنه ، وحدث أن اختارت السلسلة : الأستاذ الدكتور شاكر مصطفى(السوري) ، والدكتور سليمان الشطي (الكويتي)، [ الأول بمثابة أستاذ لي ، والثاني درست له في ليسانس كلية الآداب – جامعة الكويت ، وبعد تخرجه وحصوله على الدكتوراه من آداب القاهرة – أصبح زميلاً لي في قسم اللغة العربية ] ، وتلتقي (الثقة)و(المجاملة)و(المحبة)ربما ، فيما أقدم عليه الأستاذان المراجعان ، فقد طلبا لقائي – بصفة شخصية – لمناقشة ما يعترضان عليه من محتوى المخطوط/الكتاب . وفي هذا اللقاء كان جل اعتراضهما على إيراد بعض الألفاظ التراثية المكشوفة، أو العبارات المسكوكة (المعيبة) مثل ذلك المثل القديم : “العجيزة أحد الوجهين” .. إلخ . وأذكر أنني تمسكت برأيي في إبقاء مثل هذه العبارات ، تحت اعتبار: هل يصح أن يكون المؤلف القديم أكثر جرأة، وصراحة ، ومباشرة من المؤلف المعاصر؟! أليس هذا جبناً منا وتقصيراً في الإفضاء بالحقائق العلمية !! ولكن الأستاذين الفاضلين صمما على محو تلك العبارات المكشوفة والظنينة .. وكان مما احتجا به: أنه في الزمن القديم كان المخطوط بطيء الانتشار جداً ، فإذا أُلف في بغداد فإنه يصل القاهرة بعد ستة أشهر، ويصل الأندلس بعد عام .. وهكذا، فضلا عن أن المخطوط يطلع عليه كبار القوم القادرون على اقتنائه ، وهم قلة ، أو ندرة . أما الكتاب في هذا الزمن فإنه يقطع المسافات في ذات اليوم ربما ، أو في زمن قصير جداً، وينتشر بين كافة الطبقات، فلا نأمن ردود الأفعال ، وشطحات العقول والخواطر !! الطريف أنني اقتنعت برأيهما !!
– 4 –
أما كتاب “طوق الحمامة” للفقيه الظاهري الأندلسي؛ فإنه مسبوق – في موضوعه، وليس في منهجه – بكتاب “الزُهرة” لمحمد بن داود ، وهو فقيه ظاهري مثل ابن حزم ، ومع هذا ، ومع أن كتاب “الزهرة” حُقق ونُشر في جزأين في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه أقل انتشاراً وشهرة من كتاب “طوق الحمامة” . وفي رأيي أن الأخير تفوق على سابقه ولاحقه لثلاثة أسباب تعود إلى ما تحقق من توازن في مادته :
- التوازن بين الذات والغير ، أو الأنا والآخرين ؛ ففي “طوق الحمامة” الكثير عن حياة ابن حزم الشخصية ، ويصل بعضها إلى مستوى الاعترافات ، وكذلك صور الحياة المترفة في طبقته (أبناء الحكام وأبناء الوزراء) فضلا عن الحياة العامة ، وما انتابها من أحداث قاسية ، تعرضت لها حياته ، كما تعرضت لها الأندلس – جملة – في أعقاب سقوط دولة بني عامر، وبداية عصر الطوائف .
- التوازن بين حاجات الجسد ، وتطلعات الروح ؛ فقد ذكر صاحب “الزُهرة” (ابن داود) أسطورة إغريقية عن الإنسان ، وأنه كان في بداية خلقه مدوراً مثل الكرة، ويحمل صفات الذكورة والأنوثة معاً [ رعاية لمبدأ فلسفي يرى أن الدائرة أكمل الأشكال ] فتمرد هذا المخلوق المزدوج على جوبيتر – كبير الآلهة – فضرب الكرة بسيفه ، فقسمها إلى نصفين : ذكورة، وأنوثة، فإذا التقى النصفان ممن كان بينهما تكامل في القديم استقامت عاطفة الحب، وحققت أغراضها، والعكس بالعكس ..
- التوازن بين رعاية الواقع المباشر، وتجاوز هذا الواقع (العملي/التاريخي/الثقافي الموثق) إلى التأمل الفلسفي ، والتهذيب الخلقي والديني ..
وفي هذه التوازنات الثلاثة يتفوق ” طوق الحمامة ” على كل ما سبقه ، وما لحقه من دراسات الأدباء ، والمفكرين، والفلاسفة العرب – ومن يلوذ بهم – عن عاطفة الحب. فقد غلبت الاختيارات الشعرية على كتاب “الزهرة” ، فانحرف نحو الأدب ، أما كتاب “مصارع العشاق” لابن السراج القارئ، فقد غلب على مادته سرد قصص العشاق من البشر ، ومن الجن ، ومن الحيوان ، ومن الشجر .. وقد عرضت لهذا الكتاب ، فأعدت تقسيم مادته ، وتيسير مسارده بإلغاء التكرار ، واستبعاد مالا يستجيب للفهم الإنساني .. إلخ ، ونشر نشرة حديثة .
أما كتاب ” ذم الهوى” لابن الجوزي ، فقد نحا منحى أخلاقياً دينياً .. كذلك كتاب ” تزيين الأسواق” لداود الأنطاكي ، الذي يعكس ضخامة الحجم ، وضياع الهدف ، والاعتماد على الاستطراد .
– 5 –
وهناك مسار آخر لطرح عاطفة الحب ، هو المسار الصوفي/الروحي ، وقد تعددت فيه المؤلفات عبر الأزمنة ، ما بين كتب مستقلة، وفصول أو مقالات في موسوعات جامعة ، وهذا أمر آخر يحتاج إلى [ لواذة ] مستقلة..غير أننا نفضل أن نختم هذه اللوذاة بعبارة (أبو الحسن الديلمي) في كتابه:” عطف الألف المألوف على اللام المعطوف ” :
” واعلم أنا إنما بدأنا بذكر المحبة الطبيعية لأنه منها يرتقي أهل المقامات إلى ما هي أعلى منها ، حتى ينتهي إلى المحبة الإلهية، وقد وجدنا النفوس الحاملة لها إذا لم تتهيأ لقبول المحبة الطبيعية ، لا تحمل المحبة الإلهية ” ..
وفي هذا رد بليغ على كل من يدمر حياة البشر ، ويقتل الأبرياء، ويخرب الأوطان .. بزعم أنه يجاهد في سبيل الله !!
https://gate.ahram.org.eg/daily/News/203851/44/820049/%D9%83%D8%AA%D8%A8/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-%D9%81%D9%89-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7.aspx