القدس بين يدي الله : أبو لؤلؤة العصري .. في بيت المقدس



المقالة

القدس بين يدي الله

أبو لؤلؤة العصري .. في بيت المقدس

 

من أية زاوية نظرت إلى مدينة القدس تجد التاريخ والعقيدة ممتزجين يستحيل الفصل بينهما ، وليس هذا مما اختص به التاريخ العربيّ والعقيدة الإسلامية ، فهو ماثل بالقدر نفسه من التداخل مع اليهودية وتاريخ بني إسرائيل ، ومع المسيحية ودولها وطوائفها في الشرق والغرب . وما يعنينا هنا ما نلمسه من تجليات هذا الامتزاج في ثلاث قصائد أبدعها الشاعر الدكتور صابر عبد الدايم ( عميد كلية اللغة العربية – فرع جامعة الأزهر – بالزقازيق ) وهو بحكم تكوينه الثقافي شديد الإحساس بالمعاني الدينية ، التي تكتسب بها القصيدة مزيدا من نبل الهدف وصفاء الرؤية ، كما يمكن – أمام اعتبارات أخرى – أن تحدث فيها نوعا من الصدع أو الضبابية التي تنال من بهاء المشهد . كتب الدكتور صابر عن بيت المقدس ثلاث قصائد :

1- العهدة العمرية               2- نقوش على جدران المسجد الأقصى

3- الشهيد والسلام الذبيح ، والقصيدة الثانية ترتبط بالمحاولة الصهيونية الآثمة لحرق المسجد الأقصى ( عام 1969 ) أما الأخيرة فقد ذكر أنه كتبها في مكة المكرمة عام 1996 ، وبهذا تكون قصيدة ” العهدة العمرية ” الوحيدة التي لم يتح لنا معرفة تاريخ كتابتها ، وإن تضمنت إشارات إلى شهداء الانتفاضة : الطفل محمد الدرة ، والفتاتين : آيات الأخرس ووفاء محيدلي . وهي قصيدة بديعة حقا ، لعدة أسباب ، في صدارتها – فيما نرجح حسب علمنا – أنها القصيدة العربية الوحيدة التي حملت هذا العنوان النادر ، أما ما يراد بالعهدة العمرية فحديثه يطول ، وسنتوقف عنده في الكلمة الآتية ، ونكتفي هنا بأن نعرف أن هذه العهدة هي كتاب الأمان الذي وجهه ( منحه ) الخليفة عمر بن الخطاب لأهل إيلياء       ( القدس ) من المسيحيين ، يقر بمسؤوليته عن حياتهم وأمانهم وسلامة كنائسهم وصلبانهم ومساكنهم . وليس عليهم إلا الولاء للدولة ، أي واجب المواطنة .

إن صابر عبد الدايم ، وهو شاعر مدرك لوظيفة الشعر وتقنيات الأسلوب الشعري ، وقد اطلع على نصّ العهدة العمرية في المصادر التاريخية ، لم يفكر بالطبع في أن ينقل معاني هذه العهدة من المنثور إلى المنظوم ، وإنما تأملها من زاويته الخاصة محاولا تحقيق التوازن بين مبناها التاريخي ، وما آلت إليه ظروف وصروف أصحابها العرب في الزمن الراهن ، بعد أن أصبحت موازين القوة في الجانب الآخر . إنه يستهل بمناداة عمر من موقعه في إيلياء يحمل رسالة السلام ، ويمنح الأمان ، لنرى في ضوء هذا الموقف الإنساني الرفيع مدى انحطاط الآخر في البيت الأبيض بين حاخاماته وقد اشتعل حقده على العروبة والإسلام فوسمهما بالإرهاب :

يابن الخطاب خطاك تهل .. وتشرق في ثغر الشام / ها أنت تجئ

علي كفيك موازين الحب وأشواق السلام

.. هل جاعت شاة أو ضاعت أمم في أطراف الشام

فجئت تغذيها أمنا ، وحبورا ، ووئام ؟!

يابن الخطاب / الخطب الآن يخط خرائطه حاخام الأنصاب

يعلن أن خطاب العصر مداهمة الإرهاب !!

ارفع رايتك البيضاء / وسلم .. تسلم من أيّ عقاب .

فحماية أرضك .. عرضك .. حقلك .. طفلك

تدمير ونذير وخراب !

يابن الخطاب / هذي عهدتك العمرية تسكنها أطياف الشهداء

ترفرف فوق دماء المحراب

أبو لؤلؤة العصريّ .. على كفيه الرمح النووي

وفي سرداب البيت الأبيض يجمع رهط الأحزاب

هذه صورة منعكسة ، أو منتكسة ، على مرآة الزمن ، إذ أصبح مانح الأمان عاجزا عن تأمين أرضه وعرضه وطفله ، ضاعت هيبته التاريخية : هذا خالد يظهر في اليرموك ولا يهرب منه الرومان . إن الأمل القادم في انتفاضة الأجيال الطالعة ، التي تفي بالوعد ، وتلبس وجه فلسطين قناعا ناريا ليظل الوهم الصهيوني غبارا أسطوريا . إن الشاعر الذي يتأول هذا المجاز التاريخي ليرى في ثورة الأطفال لون الخضرة والنضرة يكسو تضاريس العهدة ، ويجدد ما وعدت به العهدة من أنه :

لا يكسر ناقوس يمتزج بأنغام التكبير / وظلال التهليل / لا يهدم محراب

يسبح في قدس الأقداس وأنوار التنزيل / لا يطرد رهبان

يسقون الظمأى أقداح الترتيل / لا يسكن إيلياء يهودي

يلقى في جب النار بآيات القرآن / وبشارات الإنجيل

هنا – فيما سقنا من مقاطع وفي غيرها – حصافة الرصد الفكري ، إلى درجة التجاوز على الطرح الشعري في بعض المفردات والإشارات ، كما أن القول بأن العهدة العمرية تضمنت شرط ألا يسكن إيلياء يهودي ، موضع شك كبير . أخذت القصيدة نسق السطر الشعري على تفعيلة بحر الكامل ، وهو من البحور الصافية ذات الطاقة التخيلية التي تساعد على إشباع الوصف ، كما أخذ الشاعر بتقنية التكرار ، معمقا حسّ الترديد المرتبط بالشفاهية والغنائية ، وفي هذه الأسطر الثلاثة : ”  يابن الخطاب / الخطب الآن يخط خرائطه حاخام الأنصاب / يعلن أن خطاب العصر .. مداهمة الإرهاب ” . قد تميزت بإيقاع صوتي خاص : كالجناس في : الخطاب / الخطـب ، ثم ارتفاع وتيرة التردد للأصوات : البــــاء ( 6 مرات ) والخاء ( 6 مرات ) والطاء ( 8 مرات ) وهذا مستملح وطريف حين يتجنب الإسراف الذي يسوق إلي التصنع ، ويلتوي بالمعني .