المقالة
القدس بين يدي الله
القدس أرض السماء
هذا عنوان مطولة الشاعر المتوكل طه ، وقد انبسطت على عشر صفحات من مجلة ” نزوى ” العمانية ( 694 سطرا ) على نسق قصيدة التفعيلة ، من بحر الكامل ، ( متفاعلن ) وهو من البحور الصافية التي تستجيب للجهارة والخطابة ، كما تتسع للتخيل ورسم المشاهد المتدفقة وكأنها المنمنمات ، كما سنرى . وهنا نجد نوعا من التوافق ( يصعب أن يعزى إلى المصادفة وحدها)، فقد نشرت هذه القصيدة في عدد ابريل( 2009) ، وبعده بشهر واحد ( يونيو 2009)حملت مجلة الدوحة للشاعر سميح القاسم مطولة بعنوان : ” اسمك القدس ” – والطول نسبي بالقياس إلى سابقتها – وهي في 269 سطرا – جاءت على بحر الخفيف ( فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ) ، وقد أهداها – كما ذكر تحت عنوانها :
” لذكرى أخي وصديقي ورفيقي الرائع الراحل : فيصل عبد القادر الحسيني ” .
إن أمورا متعددة ، ظاهرة وخفية ، تلتقي عندها القصيدتان ( قصيدة المتوكل وقصيدة سميح ) وقد تلتقيان معا مع قصيدة سبقت الإشارة إليها للشاعر مريد البرغوثي عن القدس بالطبع ، وليس مستغربا أن يبدع الشعراء العرب عشرات أو مئات القصائد عن القدس ، ولكن ما يثير التأمل أن هذا التقارب الزمني بين ” اسمك القدس ” والقدس أرض السماء ” يستحق أن نفكر فيه ، وإذا كان النصّ على القدس في العنوان من وحي إعلان القدس عاصمة للثقافة العربية منذ مطلع هذا العام ، وما واجه الإعلان من عقبات صوحت فاعليته المحتملة واستمرار العجز العربي وتشرذم طرائق الاستجابة ، وليس تنوعها من منظور تنسيقي تكاملي .. فإن مرتكز الدافع الذي تأسست عليه كل من القصيدتين يتجاوز ظاهر المناسبة ، وشعور الإحباط لعجز المواجهة ، إلى شعور خفيّ وقوىّ بأن مدينة القدس تواجه تهديدا حقيقيا على أيدي الصهيونية ، تواجهه على مستوى تكوينها الطبوغرافي السكاني ، وهويتها الدينية المفتوحة على الأديان السماوية الثلاثة ترتيبا على هيمنة السلطة اليهودية ، وهذا الاندفاع في اتجاه تهويد المدينة المقدسة لابد أن يجد له سندا من التاريخ ، ولأن التاريخ لا يملك أن يزيف الأسانيد التي تملكها المنشآت والأحداث وأسماء الأماكن وقادة المعارك ، ومن عاش بها أو مر بدروبها من الأنبياء ، فإن الصهيونية كشفت عن وسائل عملها بالاحتكام إلى الأمر الواقع ( راهنا ) وهو واقع يغري به الخذلان العربي ، والصمت العالمي ، وتآمر القوى الكبرى في المؤسسات الدولية ، وهكذا يمكن أن يكون الواقع برهانا على صحة التاريخ المدّعى ، وليس العكس !!
لقد التقت القصيدتان على تصاعد وتيرة تردد مفردة ” القدس “، في قصيدة المتوكل طه ذكرت ( 32 مرة ) ، وفي قصيدة سميح القاسم ذكرت ( 20 مرة ) ، كما حرصت القصيدتان على ذكر الأسماء التي أطلقت على القدس عبر العصور ، ففي القصيدة الأولى ذكرت إيلياء ، أو إيليا 4 مرات ، وأورسالم ( وليس أورشليم ) مرتين ، ويبوس – وهو الأقدم بين أسماء المدينة المقدسة – 3 مرات .
وفي القصيدة الأخرى – قصيدة سميح – ذكرت أورشليم ثلاث مرات ، وإيلياء مرة واحدة ، ويبوس مرتين . لا نذكر هذا الإحصاء علي سبيل المفاضلة ، ولكن لندل على منحى نفسي يقود التصور الشعري لبيت المقدس في اتجاه معين ، فنحن لا نستخرج صورة من أوراقنا القديمة ( الوثائق الثبوتية ) إلاّ حين نشعر بأننا مطالبون بإثبات ذاتنا ، وتأكيد حقوق ينكرها علينا خصومنا .
إن لكل من الشاعرين ( سميح والمتوكل ) من قوة الانتماء وحضور دافع الشعرية والموهبة المساندة لها ما يتجاوز هاتين القصيدتين – على علو قيمتهما الفنية والموضوعية ، وستكون لنا مع قصائد كل منهما صحبة في الاتجاه العكسي ، من المصب الذي نقف علي مشارفه في هاتين القصيدتين ، إلى المنبع الذي شهد بواكير الشعور وبداية التجريب .
تبدأ قصيدة ” القدس أرض السماء ” بسطر شعري جوهره استعارة حارقة وصدمة تتجاوز حدود المألوف في هذا المقام : ( نار على حَجَر النبيِ ) وذكر النار مقرونا بالصخرة المشرفة التي توصف بالخضرة لونا ، والبركة أثرا ، والقدسية اعتقادا ، يضع – في المطلع الذي يمثل العتبة الثانية للقصيدة بعد عنوانها – أساسا للتحول المدمر الذي يستهدف المدينة المقدسة ، ولكن الشاعر الذي لم يفقد ثقته في أن القدس مدينة الله ، ومدينته العربية المسيحية الإسلامية المتسعة للأديان الثلاثة في حال من الوفاق الروحي والتراضي التاريخي ، لا ينميّ صورة النار فوق الصخرة ، ليجعل منها حريقا شاملا للأماكن المقدسة ( المسيحية والإسلامية وستقترب من هذا في سياق تاريخي ليس بالبعيد ) ولكنه – على ضوء هذه النار .. ربما – يرسم ملامح المدينة الممتدة في الزمن الماضي ، الملامح المستقرة ذات اليقين ، لم تفزع من النار ، ولم تصرخ طلبا للنجدة ، ولم تشعر أبدا بأن هذه النار علي الحجر تتهدد وجودها ، إنها نار على حجر ، وماذا تأكل النار من الحجر حتى وإن أثار مشهدها الحزن والصدمة :
نار على حجر النبي / وشهقة من سورة الإسـراء في بال المـدينة /
وابتهال التين والزيتون في جبل المكبر / والفضـاء على ضياء السور
يعلو بالفضاء / القدس أرض الله / بيت الشمــس / ترتيل النجوم /
وما تهـامى من كلام الأنبياء / فلها المؤذن يغسل الآفـاق /
قبل الفجر حين تدب أقدام / الذين يرتقون سقوفها بسلالهم /
يمشون نحو الله فوق جباههم ورد الحياء .
في هذا المفتح تتصدر صورة المحنة متجسدة في نار هي نقيض لموقعها ، تعقبها صور المألوف المستحب في نقائه وبهائه ، إنها طمأنينة التاريخ المتجذر ، وليست غفلة المشغولين أو قهر المغلوبين . لقد وضع حجر أساس القصيدة بهذا الانتساب التاريخي الروحي المحدد للهوية .