القدس بين يدي الله : القدس والطواويس واللجان



المقالة

القدس بين يدي الله

القدس والطواويس واللجان

 

يتوازى اهتمام الشعراء بفن المفارقة في تشكيل قصائدهم القصيرة خاصة ، حين يعمدون إلى التهكم والهجاء ( وشر البلية ما يضحك ) واهتمام نقاد الشعر بإبراز هذا العنصر سواء كان يشكل جملة القصيدة ( القصيرة ) أو يكوّن مساحة من مطولة ، يفترض أنها تستمد خطها ( الشعري ) الأساسي من الجمع بين متضادين في صياغة خادعة يقول ظاهرها شيئا ، ويدل تأملها على نقيضه ، وإذا كان للمتلقي الدور الفاعل في اكتشاف المفارقة ، حتى تقول إنها أفضت برسالتها الساخرة ، فإن الشاعر هو الذي يملك بإرادته المنفردة حق تخليقها ، بتعامله باللغة ، وانتقاء مفردات المشهد ، وتطوير الحركة المخاتلة في اتجاه يتكشف في النهاية عن النقيض ، فيفجر طاقة السخر ويثير الضحك أو الأسى أو الغيظ .. حسب الألوان التي انتقاها الشاعر ، وهل أوصلت – أيضا – إلى مفارقة لفظية ، أم آثرت أن تكون المفارقة في الموقف نفسه ، وهو ما مثلنا له بقصيدة الشاعر سعد عبد الرحمن ” دمعة ” ، وينتمي إليه كذلك هذا المقطع من قصيدة : ” القدس في الزمن المهان ” للشاعر هارون هاشم رشيد ،( وقد سبق أن اقتطعنا من هذه المطولة ذاتها ما يشكل مفارقة ) أما التي نحن بصددها ، فتقول :

” القـــدس ” / يأتـي الصـوت من ” فيروز ” / جارحا كمشرط الأحزان /

يشـق وجه الـريح / يعبـر السهــول والـوديان / يســأل عن قيس /

يسأل عن عــدنان / يســأل عن خيـولنا التـي قد كبلـت / وأتخمت  ،

وشلّها الهـــوان / فما لها مــيدان / ولا لها مكان / قد نسيت دروبها /

ولم يعد يعرفها الفرسان / ولم تعد في حـومة الصـراع / تطلــق العنان /

وليس من عاداتهـا / الضـراب ، والطعــان / فما يهم أن يكبـل الآذان /

في القدس أو يهان / ما دامت الطواويس على عروشها / محفوظة المكان .

إن التناقض ( المأساوي ) بين البداية والنهاية ينطوي في باطنه على توافق منطقي ، ربما أضعف نسبيا من مساحة المفارقة ، وربما أدخلها في تشعب يقويها بمنطق آخر ، بمعنى أن علائم الحزن والانكسار في البداية وكل ما يدل على خذلان الخيل وغياب الفرسان عن ظهورها – يؤدي بالضرورة إلى أن تكون العروش قلقة تتوقع الزوال ، وهذا عكس الحاصل ، وهذه في ذاتها مفارقة موجعة ، تعترضها الإشارة إلى تكبيل الآذان في القدس ، وإهانته ، وكأن هذا مطلب يتساوى مع هوان الخيل ونسيانها طبائع القتال ، واستهانة الفرسان بها ، وتعطل إرادتهم القتالية تبعا لهذا .

وحين نتوقف عند ” لافتات ” أحمد مطر فإنه يكون المحطة الأخيرة ، الغزيرة ، في فن الأبجرام ، وكما تدل الغزارة على فيض الموهبة فإنها قد تؤدي إلى الجفاف وفقر الدلالة ، وبخاصة حين تكون المفارقة ” لفظية ” ليست خلاصة موقف يتفاعل ويتطور ليؤدي نقيض المتوقع منه ، وبذلك تصبح طرفة ، أو نكتة ، نفاجأ بها عند القراءة الأولى ، ونبتسم ساخرين ، ولكننا لا نتحمس لقراءة ثانية ، وهذه لافتة بعنوان : ” بين يدي القدس “

يا قدس يا سيدتي .. معذرة / فليس لي يدان /

وليس لي أسلحة وليس لي ميدان / كل الذي أملكه لسان / والنطق

يا سيدتي أسعاره باهظة / والموت بالمجان !

سيدتي أحرجتني / فالعمر سعر كلمة واحدة / وليس لي عمران /

أقول نصف كلمة / ولعنة الله على وسوسة الشيطان / جاءت إليك لجنة/

تبيض لجنتين / تفقـسان بعد جـولتين عن ثمان / وبالرفاء والبنين /

تكثر اللجان / ويسحق الصبر على أعصابه / ويرتدي قميصه عثمان !

سيدتي .. / حيّ على اللجان !

الفكرة المرجعية المدخرة في الضمير العام ، في وطننا العربي ، أنه إذا أريد التخلص من إصدار قرار في مشكلة يصعب حلها ، ويرى أصحاب القرار مراوغتها حتى ينساها الناس ، فإن الحل السحري يكمن في تشكيل لجنة لبحث الموضوع ، وهذه ” نكتة ”    و ” مفارقة ” مكشوفة شعبيا وموضع سخرية مهما كان مظهر اللجان جادا ومهيبا ، هذا هو   ” الأصل ” الذي اعتمدت عليه لافتة أحمد مطر ، التي ترتبط بتوجه إرادة الملوك والرؤساء العرب إلى أن يشكلوا من بينهم لجنة للقدس خاصة ، فظاهر الأمر مزيد الاهتمام ، وحقيقته : ستكون هذه اللجنة خاتمة الكلام في الموضوع ، وسينسى بعد حين . وهذا ما صدقه الزمن ودلت عليه الوقائع ، فلجنة القدس المنبثقة عن مؤتمر القمة الذي رقمه كذا ، في عام كذا ، لا تزال حاضرة  تشهد إلى اليوم دأب الصهيونية في اتجاه تهويد المدينة ، بإقامة السور العازل ، وزرع المستوطنات في القسم العربي ( القدس الشرقية أو القدس العتيقة ) والتضييق على حركة أبناء فلسطين حتى لأداء صلاة الجمعة ، وحماية سلوكيات صهيونية متعصبة سالت بسببها الدماء ، مثل الصلاة عند ما يطلقون عليه حائط المبكى ، وهو رمز إسلامي يطلق عليه حائط البراق !! كل هذه الممارسات التي تتحول بها المدينة المقدسة من مدينة متعددة الثقافات منفتحة على الديانات الثلاثة إلى مدينة يهودية مغلقة على صهيونيتها .. ولجنة القدس ( العربية / الإسلامية ) سادرة في سلبيتها !! لا تنطق ، كما لم يصدر قرار بإنهاء مهمتها التي لم تبدأ .. ولن ..

من وجهة نقدية خالصة ، لم يتعمق مجرى المفارقة في هذه اللافتة خاصة ، إذ بدأت بما ليس نقيضاً لما انتهت إليه ، بدأت بالتضييق على الرأي ، وهوان المواطن على أهل السلطان ، وانتهت بالسخرية من اللجان !! .. وشتان !!