المقالة
القدس بين يدي الله
القدس بيت الشرق
كيف ينام الشرق خارج بيته
تنتمي قصيدة ” القدس ” إلى الديوان الأول للشاعر إيهاب البشبيشي ، ديوان ” لجوء ” ، وقد توالت دواوينه بغزارة تليق بموهبة متمكنة : نداهة الشعر – كم الوقت – لغة تعرف ألاّفها – في منزل الروح . مع هذا استطاعت قصيدة ” القدس ” أن تأخذ مكانها ، ومكانتها في الذاكرة الجمعية لقيمتها الموضوعية وخصوصية المحتوى ، ولنسقها الشعري المتميز بمعماره الفريد ، الذي يعتمد على تقنية مركبة تستحق أن نتأملها كمنجز خاص في مجال صورة قصيدة التفعيلة ( وقد اعتمدت تفعيلة بحر الكامل ) إذ جمعت بين تقنيات يصعب أن تجتمع في سياق لغير شاعر متمكن يملك حسا عميقا بالإيقاع الفولكلوري الذي تؤثره أغاني الترديد الشعبي الجماعي ، التي تنهج أسلوب المقابلة ، والمراوحة ، والتوازي ، فتنسج بنيتها الخاصة القريبة من المأثور النغمي،فإذا جسّد هذا المأثور الإيقاعي مأثور الصور والكلمات دون أن ينحدر إلى اليومي المألوف،فإنه يكون قد حقق معادلة نادرة بين صدق الموهبة وذكاء الصناعة،وهذا ما حققه الشاعر إيهاب البشبيشي في قصيدة “القدس”.
تنفتح خزائن القصيدة ( مثل كل الخزائن التي تحفظ الجواهر الثمينة )بمفتاحين ، يتعاقبان في رسم طريق الإفضاء والنجوى . المفتاح الأول : ” عنها سأكتب ” ، وبعد هذا الافتتاح تتكرر ” عن ” ست عشرة مرة ، فيرسم لوحة ممتدة لواقع ما تحياه القدس العربية ، بحلوه ومره وفظاظته وشره ، وحين يستوفي ما يود أن يكتب عنه ، يدير المفتاح الثاني : ” سأقول ” الذي يتكرر سبع مرات .
وقد بدأت القصيدة بأسطر صادمة مشعرة بأن القدس قد بلغت منتهى طاقة الاحتمال ، بذلت في مناضلة العدو غاية ما تستطيع ، فإذا بلغ خاتمة القصيدة قدم الجواب المحدد لمسار المفتتح ، وبذلك تكون خزينة المدينة المقدسة قد أبدت كل ما تبطن من أسرار:
سأقــول .. / مهما قلت أو قالوا / يظل كلامنا في القدس
عنها لا لها / فلها الذي هو ليـس عندي / والذي عندي لها/
ولها البنادق / حين لا تجدي الكتب / القدس مزولة الحقيقة
ساعة رملية / ملئت / وقد آن الأوان لتنقلب !!
هذا القول الفصل ، وصلت مأساة القدس منتهى الاستطاعة ، وأقصى ما يمكن ، بل ما لا يمكن تحمله ، فالآن : امتلأت المزولة ، وتوقف فعلها ، ونوشك أن نفقد الوعي بالزمن ، وهذا يعني أننا إذا لم نقلب هذه المزولة لتبدأ حساب الزمن من جديد فإننا نكون – بسكوتنا ، بإهمالنا ، بغفلتنا .. أصبحنا خارج الزمن ، وفقدنا ما يمكن أن نقوله للقدس .
أما الشاعر إيهاب البشبيشي فقد سطر في قصيدته – على توالي ست عشرة نقلة – ما يودّ أن يكتبه عن القدس ، وهنا تتجلى النزعة التسجيلية ، وكأنما يحرص على رسم صورة بديلة للواقع المهدد بالمحو والمعرض للتشويه :
عنها سأكتب ربما تسترجع الأحلام بهجتها
وتنتفــض الثــواني تستـعيد جمالها ..
إنها فكرة الصورة المختزنة المضنون بها ، وهي صورة واقعية ، تنازع الصورة الشعرية رونقها وتعاليها على الواقع ، إذ تتوالى الصور :
عن كـف مطرحة / عليهـا يخبـز الشهــداء أرغفـة الغضب
عن نار محماة على جمراتها / تتناسخ الأمشاج في صلب اللهب /
عن ضحك طفل / كاد أن – فجرته قنبلة – يراوده اللعب …
وتنمو الصور من الخاص شديد الخصوصية إلى العام المميز للمدينة المقدسة في ملمحها الإسلامي وثوابتها الشعبية : عن مصهري النوريّ / أرشق من شذاه الحب /
في صدر الثوب / عن زيتها القدسيّ ، عن زيتونها/
عن نخلها إذ يدخل الكتّاب / يتلو آية الكرسيّ / يحفظها … يتبّ أبا لهب !!
قبل أن يتوقف مفتاح ” سأكتب عن ” ويبدأ المفتاح الآخر : ” سأقول ” من المهم أن نتأمل المقطع الفاصل ، وهو يتجاوز ما عرفته البلاغة القديمة بحسن التخلص إلى ما هو قرارة المشهد وخلاصة المسعى والبؤرة المشعة الموحّدة لجملة الخطاب في القصيدة :
عن حلم سارية / بيوم ما يغطي شعرها علم/
إذا ما داعبته نسائم التوحيد أحصنها / ورفرف واضطرب/
وإذا تغنى تحته الأطفال حينا ” يا سماء الشرق ” رددها وهيجه الطرب .
هذا المشهد الفاصل الواصل بين ” عن ” و ” سأقول ” يتجلى فيه الحلم الفلسطيني القومي متجسدا في ” سارية ” ، وهي من المشترك اللفظي الذي يتقبله سياق الكلام بأن تكون فتاة تمشي في الليل آمنة ، وقرينة هذا المعنى ذكر الشعر ، والإحصان ، وتغنى الأطفال ، كما يمكن أن تكون سارية العلم ، التي يغني تحتها أطفال المدارس كل صباح ” يا سماء الشرق ” !!
يحقق فضاء القصيدة توازنا رهيفا بين المجموعة التي تبدؤها : ” عن ” والمجموعة التي تفتحها : ” سأقول ” – على الرغم من تفاوت ملحوظ في عدد المرات ( 16: 7) وليس هذا الاختلاف الوحيد ، والفرق – بعضه على الأقل – ماثل فيما بين الكتابة، والقول . فالكتابة إفضاء صامت ، ولكن القول إعلان لموقف ، ولهذا جاءت المقاطع المفتتحة بالقول ذات نزعة متوعدة للعدو ، ومنذرة لمن يعنيهم الأمر – بأن ساعة العمل لم تعد تحتمل الانتظار :
القدس مزولة الحقيقة .. وقـد آن الأوان لتنقـلب
من ألف وثلاثمائة عام رأى حاكم خراسان العربيّ نذر الثورة تكاد تعصف ، فكتب إلى الخلافة :
فإن كانوا لحينهم نياما فقل قوموا فقد حان القيام ..
ترى .. متى تقوم قيامة القدس التي نراوغها .. ولا مهرب منها ؟!