المقالة
القدس بين يدي الله
القـــدس .. والنبــوءة
الشاعر القوي الحاضر بموهبته لا ينصرف عن أحداث زمانه ، ولا يغرق فيها ، فلا هو الجاهل أو المتجاهل لما حوله ، ولا هو الشاعر الصدى ، وبخاصة حين تتداخل الأصداء . الشاعر – كما أنه موهبة خلاقة ، هو بصيرة ثاقبة ورؤية نافذة ، ومن هنا سمي بالشاعر ، أي الذي يشعر بما يتجاوز شعور الآخرين . الشاعر القوي الحاضر لا يتبدد شعره أشتاتا ، كالأصداء المتجاوبة أو المتداخلة ، وإنما تتحرك انفعالاته في إطار غير مرئي تشكله محاور وتدل عليه قصائد تبدو ” منارات ” هادية ، تعكس أنوارها مسلسلة متدرجة فعل المنارة على ” لسان ” الميناء ، وقد تناثر ضوؤها مع حركة الأمواج . اشرنا قبل إلى الاهتمام المتميز اللافت الذي يبديه شعر ” فارق جويدة ” في موضوع ” القدس ” ، وليس التفوق الكمي هو ما يمنحه الأهمية والوضوح ، وإنما تنويع السياقات وبلوغ بعضها حد الطرافة والندرة ، كأن يستدعي القدس في قصيدة رثاء لشاعر لم يعرف عنه أن شعره يجسد موقفا أو ابتداعا فنيا كانت القدس ركيزته . لقد تكرر هذا كما في رثاء نزار قباني ، ومن بعده في رثاء إبراهيم عيسى ، ولا يغني قولنا هذا أن هذين الشاعرين – تحديدا – لم يكن لهما شعر عن القدس ، فالحقيقة عكس ذلك ، ولكن يعني أن ” قراءة ” فاروق جويدة لشعرهما ، ولشخصيهما ، تجاوزت العديد من الملامح والخصائص ، لتتوقف عند القدس بذاتها . وهنا ” قد ” تتقاطع خصوصية القراءة مع خصوصية الكتابة،وهو بعض ما تعنى به نظرية التلقي ، ولكن هذا موضوع آخر . ما يعنينا في هذا المقام أنه كما تتشكل موهبة الشاعر المبدعة في محاور تختلف درجة هيمنتها ، فإن قصائد المحور المحدد تتفاوت في طاقتها الإبداعية ، وليس مستغربا بقدر ما هو متوقع أن تكون قصيدة بعينها من قصائد هذا المحور المحدد بمثابة قائد السرب ، أو فنار الميناء المهيمن ، وكأن القصائد ” الأخرى ” في ذات المحور كانت بمثابة تجارب أو روافد أو محاولات بذلها الشاعر ليبلغ هذه القصيدة المهمينة ، على أن نتخلى عن شرط يبدو – في الظاهر – منطقيا يستند إلى مبدأ المحاولة والخطأ والسعي إلى الكمال أو المثال ، وهو أن تكون هذه القصيدة الأقرب إلى الهيمنة أو الاكتمال آخر القصائد – زمنيا ، فأمور الشعر ليست محسومة بهذا القدر من الملاحظة الحسية ، وكل قصيدة هي سعي في اتجاه الرغبة في الإفضاء ، والتخلص الكلّي من وقدة الانفعال ، في قالب فني رفيع . هذه ” كلمة السر ” في صناعة الشعر ، كما في عودة الشاعر إلى موضوع سبق له الكتابة عنه ، إنه – في المحاولات التالية – يبذل جهدا في تخطّي نوع من القصور اكتشفه أو كشفه النقد في محاولته ، أو محاولاته السابقة ، وقد يوفق الشاعر في تفادي هذا النوع من القصور ، غير أنه سيكتشف ، أو يكشف له النقد – عن وجه آخر من أوجه القصور ، وهكذا ، مثلما كان يصنع ” سيزيف ” الذي يعاود رفع الصخرة مع مشرق كل شمس دون هواده ، ليبلغ القمة ، وما هو ببالغها !! وبالمثل يحاول الشاعر – مع كل قصيدة – أن يرفع صخرتها إلى صهوة الانفعال والإتقان !! إن هذا التصور سيدل على أن مبدأ ” الهيمنة ” لقصيدة بعينها في محور محدد هو مسألة نسبية ، على مسؤولية التلقي المتفاعل مع الموضوع ، الباحث عما يشبع الرؤية من جانب ، ويحقق شرط الجمالية من جانب آخر .
القصيدة التي تأخذ موقع الهيمنة في المحور المقدسي ، من بين قصائد فاروق جويدة ( الخمس عشرة ) بعنوان : ” لن تموتوا مرتين ” !! ، وهي إحدى قصائد ديوان : ” لن أبيع العمر ” – ( صدر عام 1989 ) ، وقد يكون من المهم لوضع القصيدة في سياقها الزمني ، وموقعها الموضوعي ، ولاكتشاف أوجه قدرتها على تجاوز المرحلي من مناخ إبداعها ، لتكون عملا إبداعيا له قدرة الاستمرار وطاقة التأويل وموقع النبوءة الممتدة مع الزمن الآتي ، قد يكون من المهم أن نستحضر مجريات تلك المرحلة ( ثمانينيات القرن الماضي ) بالنسبة للواقع العربي ، والقضية الفلسطينية بصفة خاصة ، وليس في دعوتنا هذه ما يسهل للمتعجل أن ” يهرب ” من مواجهة القصيدة إلى قراءة كتب التاريخ أو مقالات الصحف عن تلك الحقبة القريبة ، إن استعراضا سريعا لقصائد الديوان ستكشف عن هذا التشابك الأليم بين أوجه العجز العربي والعذاب الفلسطيني الذي بلغ أوجه ولم يبلغ نهايته ، وإن قصيدة عن سناء محيدلي شهيدة الجنوب اللبناني ، وأخرى عن حصار الفلسطينيين في بيروت ( قصيدة : ملعون يا سيف أخي ) لهما دلالة خاصة ، ترتكز ، كما تؤدي – عند فاروق جويدة – إلى مقولات عامة تتردد في شعره معبرة عن رفضه لغياب العدل وغياب الأمن .. مثل رفضه لغياب الحب ، وغياب الفرح بالحياة . في قطعة من بيتين تحت عنوان : ” الرقاب ” يقول :
كلما شهدت سجانا وسيفا فوق أشلاء الرقاب
كلما أيقنت أن الأسد ماتت حينما ساد الكلاب
سأتجاوز عن ( التجاوز ) اللغوي في تكرار كلما ، لأصل إلى ما في هذه الصورة التي تعوّل على النفي الموصل إلى الإثبات ، وما يعنيه وجود السجان من أن بلوانا من صنع أيدينا . أما مرثية سناء محيدلي فتربط – في عنوانها – بين العشق والموت ، وهو المعنى الذي سبق إليه إهداء الديوان ، وفيه يقول جويدة :
” يملؤنا العشق فنغرق فيه ولا ندري : هل نحمل
عشقا أم موتا .. فبعض العشق يكون المـوت ،
وبعض الموت يكون العشق ” .
وهذا معنى صوفي لم يكن بعيدا عن صور الحب في شعر فاروق جويدة ، وله جذوره التراثية ، فأشهر قصص العشق العربي تنتهي بموت العاشق تطهيرا للعاطفة ، وتخليدا لقصة العشق ذاتها ، هكذا كان قيس صاحب ليلي ، وعروة صاحب عفراء ، وغيرهما من شهداء المستوى العذري ، الذي تبرعم في رحابه العشق الصوفي ، الأكثر قابلية – لدى الذائقة العربية الإسلامية – للاستمرار .
هذا ” استهلال ” متوسع – نسبيا – لاستقبال قصيدة العشق الصوفي لبيت المقدس ، التي حملت خطابا إلى المناضلين في طريق استعادتها ، خلاصته : احتسبوا أنفسكم أمواتا ، وهبوا للجهاد ، فلن تموتوا مرتين !!