المقالة
القدس بين يدي الله
جماليات المكان المقدسي
حين اختار الشاعر المتوكل طه ” القدس أرض السماء ” عنوانا لمطولته فقد جمع فيه أهم وأدق المحاور التي تشكل الرؤية في القصيدة ، وهما محور المكان ( فلسطين / القدس ) ومحور التاريخ الروحي الماثل في علاقة الإضافة ( أرض السماء ) إن المكان المحدد يتصدر ، من ثم يحكم السياق ، غير أن الشاعر – وهو يفكر في القدس – لم يستطع – ومعه كل الحق – أن يعزل حضورها أو يخصصه دون الحضور الشامل لأرض فلسطين ، ولا نريد أن نتعجل إبداء القول فنزعم أن هذا الشمول الذي رسم الخارطة بتمامها حتى لا يتساقط شيء منها فتفلته الذاكرة بفعل الزمن ، هو مصدر الخصوصية – حتى مع وجود هذا الملمح في بعض قصائد هارون هاشم رشيد مثلا – في هذه القصيدة للمتوكل طه ، ومصدر جفاف الشعرية في بعض مواقعها . ” للمكان ” أهميته في الإبداع الشعري العربي منذ بداياته، وحينما وصف امرؤ القيس ” سقط اللوى ” – موطن ذكريات حبه ومثير شجنه بأنه : بين الدخول ، وحومل ، وتوضح ، والمقراة ، تهكم به ناقد ( الباقلاني ) فتساءل ساخرا : هل كان امرؤ القيس يعرض سقط اللوى للبيع فحرص على تحديد الموقع من الجهات الأربع !! ، هنا يبدو قصور النقد في مقابل صدق الدافع وفطنة الصناعة لدى الشاعر ، لأن المكان – في الشعر خاصة – لا يذكر لذاته ، وإنما لما يحمل من ذكريات ، وبهذا يتحول المكان ( المادي ) إلى عاطفة ، ويستحيل ( الشيء ) إلى رمز . عندما عرض ” باشلار ” لجماليات المكان أبدى اهتماما واضحا بما يمكن الإحاطة به عن طريق الحواس : المكان المفتوح / المغلق – المتحرك / الساكن .. الخ ، ولكن اهتمامه الأكبر اتجه إلى ما يمثل المكان من عواطف ( ماضية ) وانفعالات وذكريات ، وما يمكن أن يستثير ( الآن ) عبر المشاهدة أو الاستعادة من مخزون الذكريات . وهذا المعنى الأخير هو الذي يحول المكان إلى شعر ، هو الذي يجعله متوائما مع نسج القصيدة مدمجا بها ، وليس ملصقا أو مقحما لتسجيل موقف أو الإبانة عن فكرة . لقد تحقق ” شرط ” باشلار في المكان الرئيس المهيمن على منعطفات القصيدة ، وهذا ما ضمن لها أن تكون عملا بازغا وفريدا تحتفظ به الذاكرة الجمعية العربية عبر العصور ، أما تلك الأماكن الأخرى ، أو أكثرها ، فإنها تدفع بالقصيدة إلى سجلات الوثائق – وهذا مطلوب في مثل ظروفها ، ولكنه ليس الذي يجعل منها بناء جماليا مؤثرا في الوجدان العام أو الخاص .
سبق أن أشرنا إلى أن ” القدس “– بعد العنوان – ذكرت في القصيدة ( 32 مرة) – وكما يقول القدماء إن العدد لا مفهوم له ، بمعنى أنه ليس دليل الأفضلية ، وإنما الاستعمال السياقي المحمل بالدلالات المتجددة ، المتحكمة في توجيه الانفعال في القصيدة . وقبل أن ” نختار ” من هذا العدد اللافت بعض قرائن شعرية الأداء ، ينبغي أن نذكر أن عدد المرات يتجاوز إلى الضعف إذا تجاوزنا الظاهر إلى المضمر ، وأعملنا قاعدة التقدير النحوي لاستيفاء ركني الجملة ، وقاعدة أن العطف على نية تكرار العامل ، فحين تقول القصيدة :
والقدس خان الزيت / قوس العطر / قنطرة الحرير / وسكر الأسواق /
باب الضوء / شباك الدوالي / رعشة الألماس / صوت العين /
والصبر المعتق / والرجاء .
فإن ” القدس ” الأولى مبتدأ ، وخان الزيت خبره ، وهذا المبتدأ مضمر مقدر في سائر العبارات التي لا تفهم إلاّ على أساس من هذا التقدير ، وقد لجأ الشاعر إلى هذا الحذف غير مرة تجنبا للرتابة ، وتنشيطا للتلقي ، وبخاصة مع وضوح المعني ، ورغبة في تقوية أواصر الصورة الممتدة المتجددة بتحميل المضمر على الظاهر السابق عليه ، كأن يقول :
والقدس آخر ما تلفظت الأعالي / فوق راية أرضنا / هي سندس الزيتون/
أجنحة الحمام / ولمعة الشريان / أو كحل الصبية لم تصب من عمرها إلاّ
البكاء / والقدس عين الله في الأرض الصغيرة / أول الصلوات والآيات /
محراب البتول / ونخلة الميلاد / معراج الأمين / ومربط الفرس المجنح /
خبزنا البلدي / زيت سراجنا الكوني / أو رقص البلاد / وزفة الأعراس
في وهج الغناء .
إن الفضيلة المميزة لهذا التدفق تتجلى في وضوح الإيقاع بإيثار الجمل القصيرة، ( وبخاصة في الاقتباس السابق ) والحرص على انتقاء الدوال ذات النكهة المشرقية ، واضحة الانتساب إلى القدس التاريخية ، المستمرة . لا نريد أن نناقش هذه الصور المفصّلة ، وهل خضعت لتنسيق يعطي ترتيبها أو تواليها قدرا من الحتمية أو المنطق أو حق الجوار ، أم أنها تراكمت بالامتداد كما تتراكم حارات وخانات وشوارع مدننا القديمة حسب ما تستدعي أحوال لا سيطرة لنا عليها .
ولقد قرأت هذا المقطع الأخير عشر مرات مثلا ، وفي كل مرة تعترض الحلق هذه الأداة العاطفة التي تصفها كتب النحو بأنها تعنى الاختيار ، مع إمكان الجمع في بعض الحالات ، ويمثلون لها بجملة : كل عنبا أو تفاحا ( هنا يجوز الجمع ) ، و : تزوج هندا أو أختها ( وهنا لا يجوز الجمع ) وسواء جاز الجمع أو لم يجر في قول الشاعر :خبزنا البلدي / زيت سراجنا الكوني / أو رقص البلاد ، فإن هذه الـ” أو ” مع عدم إخلالها بالأساس النحوي ( تقدير العامل ) وحتى مع ضرورتها العروضية ، لم تستطع أن تداري خشونتها وكسرها للسياق المفعم بالشعرية والحنين ، ولو أن لناقد الشعر أن يقترح على الشاعر تبديل لفظ لتمنّى أن يضع ” يا ” مكان أداة العطف الدالة على التمييز . إن النداء هنا يستحضر الدهشة وتجديد المسرة بتذكر كيف كانت زفة الأعراس ووهج الغناء ورقص البلاد!!فيا له من زمن!!
ولكن لماذا لا ينتابنا قلق بنفس الدرجة في قوله:لمعة الشريان أو كحل الصبية ؟ هل لأن بين العبارتين قرابة نفسية ؟ هذا أمر يحتاج إلى تفصيل يعتمد على تداعي الحقول المعرفية .