القدس بين يدي الله : فن التاويل السياسي



المقالة

القدس بين يدي الله

فن التأويل السياسي

 

هذا الكتاب بعنوان : ” تقديم بيت المقدس ” يفتح أمام القارئ أفقا من الاحتمالات والتأويلات ( والهواجس ) المتضاربة . مؤلفه البروفسور عبد الفتاح العويسي المقدسي ، ترجمه إلى العربية د . فؤاد خليل .

وكلمة ” تقديم ” التي تتصدر العنوان من معانيها : التفضيل ، والتمهيد ، والتضحية ( القربان ) !! . والتصور الأساسي في الطرح الفكري لمحتوى الكتاب ما يطلق عليه ” دوائر البركة ” المتدرجة في الاتساع ، والدائرة مهما اتسعت فإن مركزها ثابت . ومركز البركة في العالم – حسب قراءة المؤلف – أو تأويله : بيت المقدس ، وتدل الآيات الثلاث الأولى في سورة التين – عليها وتحدد أقسامها : ) والتين والزيتون # وطور سينين # وهذا البلد الأمين ( ، فكما يتأول البروفيسور العويسي تكون التين والزيتون مقابلة أو معادلة لبيت المقدس ،ويكون طور سينين ، أي طور سيناء رامزا وشاملا لمصر والشام ، أما البلد الأمين – بتصدّر اسم الإشارة فيراد به مكة تحديدا ( ولماذا ليس الحجاز ؟ ) !! وتلفتنا مراجعة الترجمة إلى الاتجاه المبكر في حركة الغزوات خارج الجزيرة في عصر الرسول ، فقد اتجهت غزوتان صوب بيت المقدس : غزوة مؤتة ، ثم غزوة تبوك التي قادها الرسول بنفسه ، وقال إني أريد الروم ، وتوفى r وهو يجهز جيش أسامة في ذات الاتجاه : محاولة الاقتراب من بيت المقدس ، التي زرع في الضمير الإسلامي اليقين ببلوغها حادث الإسراء نفسه قبل الهجرة المحمدية .

في مقدمة المؤلف يمهد لتقبل ما يدعوه ” نظرية دائرة البركة لبيت المقدس ” بإشارة دالة وهي أن الحركات السياسية – سواء الدينية أو العلمانية – في الدول العربية المسلمة تحدّ من التطور الفكري للعلماء ، وتضع القيود على حريتهم الفكرية ، فإذا أردنا أن نأخذ خطة عمل أكاديمية مأخذ الجد ، فلابد من فصلها عن الارتباطات السياسية الحزبية والتزاماتها . وهذه إشارة صحيحة ، ولكن ما مناسبتها ؟ وإلى من يوجهها البروفيسور المؤلف ؟ وهل يحتمل أن نوجهها إليه في خاتمة المطاف ؟

حين يرى – في نظريته – أن مركز دائرة البركة هو بيت المقدس ، فإن البدء المنهجي يتطلب أن نعرف حدود ” بيت المقدس ” ، فهل يراد به منطقة المسجد الأقصى ، التي تشكل خمس المدينة القديمة المسورة ؟ أم هي ” كل ” القدس العتيقة داخل السور ؟ أم هي القدس الشرقية ، وهل تلحق بها القدس الغربية فتكون القدس الكبرى ؟ وهل هناك احتمال أن تراد أرض فلسطين بجملتها ؟ . هذه جميعها احتمالات مطروحة ، ولكن القدس – المدينة العريقة – لا يجوز في تعريفها أن تجرد من تاريخها ، وهنا تتضافر ثلاث دعائم ( حسب رؤية المؤلف ) :

الموقع الجغرافي ، ومن يعيش ( أو كان يعيش ) عليه من البشر ، ورؤيته للسيطرة على الأرض وشعبها !! . وهذا كلام نظري يفتقد التحديد ، على الرغم من إيراده في مقام التحديد ، وهو بالنسبة لتعريف ” بيت المقدس ” أو تحديد معالمها لا يخلو من تشوش وتداخل ، قد تطل من أثنائه برجماتية فكرية ، وانصياع للأمر الواقع ، إذ ندرك ما تعيشه مدينة القدس – راهنا – من محنة التهويد ، بالتضييق على أهلها العرب ، ومطاردة المصلين في المسجد الأقصى ، وتهجير من ترى السلطة الصهيونية أنه لا يستكين لعسفها ، ورفض عودته إلى مدينته ، هذا مع التوسع في إنشاء المستعمرات الاستيطانية في قلب ، وفي مواجهة الأحياء العربية التاريخية . وهكذا سيكون الاحتكام إلى شعب بيت المقدس قولا ظاهره الموضوعية وحقوق المواطنة ، وباطنه إبقاء أمر التشكيل الراهن لبيت المقدس على ما هو عليه ، وتذهب عبارة ” أو كان يعيش هناك ” بددا ، لاستحالة اجتماع من كان يعيش هناك على قول ، ما دام لا يعيش هناك بالفعل ولا يمكن من العودة إلى مدينته ليعيش هناك !! وإذا كان المعنى البعيد جدا عن الاحتمال – وهو ضرورة عودة أهل بيت المقدس من العرب إليها ، ليشاركوا في تحديد هويتها ووجهتها – هو ما يريده المؤلف ، ( وهو ما نريده ) فإنه لم يقدم تصورا عمليا في هذا الاتجاه ، بل لم يشر إلى ضرورة وقف استنزاف الدماء العربية من شرايين القدس قسرا ، وهو ما يؤدي إلى أن يكون الحديث عن المدينة ذات التعددية الثقافية مجرد أمنية نتخيلها ، أو رمزا نسعى إلى تحقيقه .. فلا يتحقق !! – ينتهي المؤلف إلى أن ” بيت المقدس ” – الآن – مفهوم جديد يحمل خلفيات تاريخية وجغرافية ودينية وثقافية وسياسية ، يتجاوز حدود المسجد الأقصى ، ومدينة القدس المسورة القديمة ، كما أنه ( أي مصطلح بيت المقدس ) ليس مدينة ولا مستعمرة سكانية ، ولكنه إقليم مكون من عدة قرى ومدن صغيرة ومدن كبيرة تتميز برؤية شاملة متعددة الثقافات ..

هذا التصور الجديد لحدود بيت المقدس ، ليس جغرافيا تماما ، ولا دينيا إلا من خلال التوسع في التأويل ، وليس له سند من التاريخ السكاني .. ولعل مستنده الأساسي ، في الواقع السياسي الذي نعيشه ..