المقالة
القدس بين يدي الله
مفارقة ” الدم والدموع ” !!
يقوم فن المفارقة بأداء وظيفة فنية مؤثرة في بنية القصيدة الحديثة ، وبخاصة حين تشكل هذه المفارقة مجمل البنية ، فيما يطلق عليه ” الأبجرام ” أو القصيدة / الخاطرة / شديدة الكثافة والإيجاز ، وهذا نمط من أنماط التشكيل الذي استثمر فنونا بلاغية قديمة ( بديعية ) يدخل بعضها تحت مسمى المخاتلة ، أو الذم بما يشبه المدح .. إلخ . وخاطرة المفارقة ( الأبجرام ) معروفة في الشعر الأوربي قديما وحديثا ، ولكنها لم تأخذ مداها في شعرنا العربي إلاّ في زمن قريب ، وصدرت فيها دواوين ، ولكن قصيدة المفارقة أخذت مداها الانتشاري في الوطن العربي بعد أن أصدر الشاعر أحمد مطر الجزء الأول من ” لافتات ” وأسس منحاها السياسي التهكمي كاشفا عن تناقضات ومساخر أدعياء السلطة المنتفخة كذبا بالمسؤولية ، المهمومين نفاقا بالفكر ، لقد شهّر بهم أحمد مطر في لافتاته الحارقة – على وجازتها ، وقد أثارت هذه اللافتات انتباها حادا أول ظهورها في ديوان ( 1984 )، وكان الشاعر ( حينها ) محررا ثقافيا لصحيفة القبس ( الكويت ) فلقيني في رابطة الأدباء ، وأهداني هذا الجزء الأول ، فقرأته ،ودهشت لمفارقاته اللاذعة ولكني لم أتحمس للشعر فيها، وكان مستند عدم تحمسي أن الشعر الجيد يزداد بهاء وتتسع مساحة شعريته مع تكرار قراءته ، ولم تكن النسبة الغالبة من ” لافتات ” تكتسب هذا الحق ، ( وهذا ما قلته ونشرته صفحة القبس التي يشرف عليها الشاعر نفسه ) قلت له : أكثر لافتاتك مثل ” النكتة ” ، تثير الدهشة عند السماع الأول ، وتتحول إلى مجرد كلام ساخر عند السماع الثاني أو الثالث !! ، بعد حين راجعت مقولتي ، وهنا وجب شيء من التفصيل ، والتفطن إلى الاختلافات التي تجعل من ” المفارقات ” شحنة انفعالية موجهة للشعور ، ايجابية التأثير حتى وإن بدت هادئة غير صادقة ، أو تجعل منها ” نكتة ” ، حادة ، قد تصل إلى مستوى وصفها بالفاضحة أو الصادمة، ولكنها سرعان ما تخبو فلا تخلف في النفس شيئا،وكأنها دخان أو فرقعة لا تلبث أن تتلاشى .
أوضح الفرق الأسلوبي بين النوعين ، بأن أقدم ( في موضوع القدس ) هذه القصيدة ( الأبجرام ) للشاعر سعد عبد الرحمن ، وهي من ديوان ” النفخ في الرماد ” ، بعنوان : ” دمعة ” . تقول القصيدة :
في المتحف القديم عند القلعة / رأيت سرج مهره / وشسع نعله ودرعه /
لمست في القراب سيفه الصمصام / وقبل أن أنام / قصّ عليّ والدي حكاية
النصر المبين / فوق ربى حطين / حين استردّ المسجد الأقصى / صلاح الدين/
من قبضــة الصليبيين / وعــندما سألته :/ عن سرّ ذلنا في هذه الأيام /
وعن هوان أمرنا بين الأنام / أدار وجهه بسرعة / لكنني لمحت في عينيه /دمعة .
هذه القصيدة من الشعر الجدير باسمه ، ولأننا أقمنا الفارق بين نوعين من بنية الأبجرام على الأسلوب ، فإننا – هنا – نتمهل عند أسلوب الشاعر سعد عبد الرحمن لنتعرف على خصوصية الشعر في قصيدته التي تصف موقفا طرفاه الوالد والابن ، وهذا يتكافأ مع طابع المشاهدة الذي افتتح القصيدة ، وصيغة السؤال والجواب ( أو النكوص عن الجواب ) الذي ختمها . إن هذه القصيدة موجة في سياق ديوان ، ومن ثم فإن العين تبدأ في تعقب أنساق الموجات قبل أن تتوقف عند إحداها ، وعنوان الديوان هو صانع نسقه الشامل : ” النفخ في الرماد ” وسيتحقق هذا العنوان الشامل لجملة الديوان في القصيدة المختارة دون أن يعمد الشاعر قصدا إلى ذلك ، وإذاً فإن ” ذلنا في هذه الأيام ” ، و “هوان أمرنا بين الأنام ” هو سبب ونتيجة أننا ننفخ في الرماد ( عنوان الديوان ) وإن هذا النفخ العبثي فيما لا يجدي يوصل بالضرورة إلى ” دمعة ” ، وهو عنوان القصيدة .
كيف تمكنت القصيدة – على إيجازها – من تفجير الطاقة الشعرية ، على الرغم من بدايتها الوصفية الواقعية المستمدة من الممارسة الحياتية لشاعر صعيدي ( أسيوطي يحرص على زيارة معالم القاهرة ، وهو مالا يحرص عليه كثير من القاهريين ) فإنه يصعد بهذا الفعل المألوف إلى الربط غير المألوف عبر تقنية التداعي ، وهو أحد مفاتيح السرد ، التي تفتح الطريق إلى الدرامية بطبيعة المقابلة بين الداعي والمستدعى . هكذا بدأ سعد عبد الرحمن بصبيّ يشاهد جانبا من معروضات متحف قلعة صلاح الدين ، والمتوقع أن تكون معروضات متحف في قلعة ذات طبيعة قتالية ، كما أن الصبيّ السائل يعيش زمن التطلع والرغبة في المعرفة وطرح الأسئلة ، وقد صدر الصبيّ عن وعي متفتح يواري شعوراً بالقهر ( غير المبرر من وجهة نظره ) ، فكان جواب الوالد تأكيدا لهذا الشعور بالهوان ، هو هذه الدمعة ، وهي دمعة مستفزة تدعو إلى توليد بحث آخر عن سر هذه الدمعة عند أب يملك المعرفة ، ويملك الطموح ، وله مثل هذا الصبيّ المتطلع . لم تقتصر بنية المفارقة في هذه القصيدة على ما بين البطل صلاح الدين محرر القدس ومحطم الفرنجة في حطين ، وما بين الواقع المرتهن بإرادة الصهيونية وظهيرها من الفرنجة من تضاد مأساوي ، فهناك مفارقة أخرى خفية ، لعلها ما قصد إليه الشاعر في الأصل ، وجلاه في المستوى المحسوس ( عدة القتال في حطين ) والمستوى المجرد ( الذل والهوان ) ، أما هذا المستوى الخفي ، الرائع ، فنجد طرفي المفارقة فيه ماثلا فيما بين الصبيّ السائل ، المجاهر بالسؤال المحدد ، والأب المسؤول العاجز عن الجواب ، الهارب إلى الدمعة ، وكأنها البديل الحالي عن الدم المبذول في حطين ..
لقد استطاع هذا النص – على اختصاره الشديد أن يجدل ثلاثا من المفارقات في سياق واحد ، كثفت الدلالة ، وداخلت بين مستويات التصوير ، وفتحت طرق التأويل ، لينتقل بهذه الدمعة من السلبية الباكية ، إلى القهر المحفز للانفجار !!