المقالة
القدس بين يدي الله
وردة على جبين القدس
عنوان قصيدة اتخذه الشاعر هارون هاشم رشيد عنوانا شاملا لأحد دواوينه ( 1998 ) التي توجت باسم المدينة المقدسة ، أما قصائده الأخرى فيمكن أن نرى فيها منظومة تتموج مع مراحل عمر الشاعر ، ما بين الفعل التحريضي ، وردّ الفعل الرافض المتمرد ، وفي كل الأحوال هو شعر فاعل يتأبىّ على المخادعة بمعسول الكلام عن السلام :
من أين يأتينا السلام وأرضنا باسم السلام يسودها الأشرار
الشاعر هارون ابن غزة ، ولهذه المدينة تاريخ خاص مميز في وجدان أبنائها ، وحاضرها النضالي يعمق صورتها التاريخية ، وسنلاحظ في قصائد هذا الشاعر اعتزازا حقيقيا بانتمائه الغزي ، وإذا كان شأنه شأن سائر شعراء فلسطين فيما سبقت الإشارة إليه ، وهو أن كل حبة رمل من أرض فلسطين تكتنز خصوصية الوطن ورمزية القضية ، وفي هذا تلتقي جميع المدن الفلسطينية في تعلق الروح بها ، وأنها الحياة والمصير اليقين الذي لا بديل عنه ، لا فرق بين حيفا ، والرملة ، أو الجليل وغزة ، في حين يغيب هذا المستوى من التماهي والتجريد عند كثير من الشعراء العرب خارج فلسطين ، إذ تستقطب القدس أنظارهم، وتشخص قبة الأقصى ذات البريق الذهبيّ رمزا لشموخ العقيدة وحضور الماضي والمسؤولية تجاه المستقبل . هنا يعد هارون هاشم رشيد استثناءً شعرياً في امتزاج انتمائه الغزي الجاثم في أحضانه كجذوة من نار ، بأشواقه إلى القدس الشامخة في براح الحلم والأمل مثل جنة موعودة للمناضلين الشرفاء ..
قصيدة : ” وردة على جبين القدس ” مطولة ( 180 بيتا ) من بحر الكامل ، موحدة القافية ، رويها الدال المضمومة . في عنوان القصيدة ، ثم في تصديرها ، والبيت المطلع منها – ثلاث عتبات يلتقي فيها رمز القدس ( الهدف ) بحضور الفعل : غزة . يقول تصدير القصيدة كاشفا عن مناسبتها : ” عبد الهادي سليمان غنيم ابن معسكر النصيرات في قطاع غزة بطل عملية الحافلة رقم 405 على طريق القدس ، الذي يواجه حكما إسرائيليا بستة عشر مؤبدا ” ، ثم يأتي مفتتح القصيدة :
” الله أكبــــر ” فجــــــرت تتردد والقدس شاخصة المآذن تشهد
” الله أكبر ” يوم أطلقها الفتى عبـرت إلى أم الشهـيد تــــزغرد
إن انتساب المقاتل في ساحة النزال تقليد عربيّ قديم ، وكذلك رفع الشعار الديني – بصفة خاصة ، عند لحظة الالتحام ، وتلفتنا الإشارة إلى ” أم الشهيد ” التي زغردت عندما بلغها نبأ المواجهة على طريق القدس ، وأم الشهيد هنا أم جامعة لكل شهداء فلسطين ، وفي بيتين تاليين تتردد مفردة الثأر ثلاث مرات :
قــالت لها : ثاراتنا لماّ تـــزل نبراس ثورتنا ، يضئ ، ويوقد
من قـال إنا قد نسـينا ثـأرنا أو أننـا عــــن ثــــــأرنا نتــردد
إن الفتى الفدائي مفجر الحافلة على طريق القدس يتوحد به الشاعر ، ويطرح أسئلته ، ويرصد صدى مشاهداته ، وردود أفعاله من هذا المنظور ، فهو ابن غزة ، أو ( شاطئ الأحزان ) ، رحل إليها لاجئا : ” ما زالت الدور التي عن أهلها / سلخت ، تثير حنينه، وتجدد ” ، وهو المشهد المستقر في ضمير الشاعر منذ شهد اللاجئين يتراكمون على شاطئ بحر غزة ، ويحشدون في المعسكرات ، لم يتوقف الحزن عند أقاربه من هؤلاء اللاجئين ، فكلهم بالمحنة قريبه ، وبهذا أصبح أمل العودة والعمل على تحقيقه هدفا للشاعر الذي لم يفقد بيته ولا مدينته . من هنا يرفض هارون هاشم رشيد أن يكتب عن القدس بلغة الأسى والفقد ، لذلك لا تصنّف أشعاره عن المدينة المقدسة في إطار ” رثاء المدن ” لأن الرثاء إنما يكون للأموات ومن في حكمهم من المفقود الذي لا أمل في رجوعه . أما القدس – وهي على مرمى حجر – فإنها شاخصة في القلب بكل طهارتها وقدسيتها الإسلامية والمسيحية :
فلنا نقاء سمائها ، وفضائها والمـاء والتـرب الــذي يتوقد
ولنا مآذنها التي تعلـو إلـي بــاب السمــاء هديرها يتردد
ولنا كنائسها ، ودور عبـادة الله فيهـا بالمحـــبـــة يعــبد
هذه حدود الأفق الروحي / التاريخي الذي يعتنقه المناضل ، أما في هذا الموقف خاصة فإن صورة المسجد الأقصى هي قرارة المشهد وخلاصة المسعى :
وقف الفتى ، والقدس ملء عيونه تبدو القباب مشوقة ، والمسجد
وتلتقي المشاعر الدينية بالوعي القومي المتجذر بآيات الجهاد عبر حقب التاريخ، هذي طريق القدس ليس يرودها / إلا الألي حملوا اللواء ووحدوا – هذي طريق القدس من عمر إلى / أبنائنا تسمو بهم ، وتمجد – القدس عاصمة لنا ، ولشعبنا / جيل إلى جيل تدوم وتخلد .
القدس حقيقة ، وطريق القدس رمز ، وذكر العاصمة توثيق لمبادئ الثورة الفلسطينية ، يرتفع بالقصيدة من مستوى التغني بالمشاعر وتغذية الانفعال إلى مستوى وثاقة العهد والتحول إلى الفعل . القصيدة المقسمة في (22) مقطعا ، خصصت المقطع السادس لتصوير العالم الشعوري الداخلي لأم الفتى المناضل ، وهي – مثل كل الأمهات – غال عليها ابنها ” لكنما الأغلى عليها أرضه / وترابه ، وتراثه ، والمحتد – وفي المقطع التالي (7) يعرض لعروس هذا الفتى المناضل ، وهنا تتماهى القدس العروس ، مع الزوجة العروس ولهذا التداخل المقصود سياق آخر ، يحتاج إلى تفصيل .