المقالة
بلكونة على الهايد بارك !!
– 1 –
… وقبل أن يشطح بك الخيال إلى (هايد بارك) لندن، تلك الحديقة مترامية المساحات، وسط عاصمة الضباب، التي كانت تباهي بها (بريطانيا العظمى) – زمن سطوتها العالمية – حين كان يطلق عليها ( سيدة البحار – الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس) ، وقد ظل هذا الوصف مستحقا لها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، التي انتصرت فيها على “هتلر” (1945) .
لي مع (هايد بارك) ذكرى قديمة، ترجع إلى سنة (1978) ، فقد أقمت في لندن ستة أشهر، كان لابد أن أشاهد الهايد بارك حيث تموج بالزائرين، والخطباء، والفنانين صبيحة الأحد، وقد انعقدت حلقات صغيرة، متفاوتة، ليست متباعدة كثيراً، يتوسطها خطباء بيض ، وصفر، وسود، يعرض كل منهم قضية مجتمعية ، أو وطنية .. إلخ .
لعلي أميل إلى (تجميل) موقفي، فأزعم أنني استمعت إلى خطيب أفريقي من الكونغو ، وأفريقي آخر ولكن من بروكلين ، وعجوز من هونج كونج يعيش في بريطانيا.. ولكن هذه المشاهدات (المتوقعة) كانت – بالنسبة لي – عابرة ، وغير ذات أثر يمكن الحديث عنه . أما ما استبقته الذاكرة إلى اليوم فهو منظر بحيرة البط التي تتوسط الحديقة ، وهي مترامية ذات أقسام، وأشكال هندسية، تتخللها الطرقات وأماكن الجلوس، فوجدتها فرصة لالتقاط الصورة مع البط، في حين لم أحرص على ذات الفعل مع حلقات الخطباء، وبذلك أثبت صحة الانتساب إلى “الفلاحين” بالمصري، و”الفلاليح” باللبناني !!
– 2 –
أما الهايد بارك الذي تطل عليه بلكونة (شرفة) غرفتي، فهو الشارع (الفرعي) الذي أقمت فيه بيتي في ضاحية المعادي، منذ نصف قرن أو ما يقاربه!! لهذا الشغف بالمعادي قصة ذات جذور تعود إلى زمن الطفولة، ومغريات مستجدة عبر مراحل العمر المختلفة. زرت المعادي حين كان الموصل إليها قطار (بخاري) يبدأ من ميدان (باب اللوق) وكنت طفلا في العاشرة أو حولها، قادماً من القرية بصحبة أمي التي تمسك بيدي. نزلنا في محطة المعادي، ومشينا إلى منزل عمي (الموظف الكبير بوزارة المعارف) وكان يملك فيلا متوسطة المستوى. أما الذي بهرني حقاً، وأنا مسحوب من يدي ، فمنظر فتاة – تكبرني قليلاً – تلبس الشورت وتركب دراجة بيضاء!! المشهد في جملته وتفاصيله جديد على عيني تماماً، فضلا عن السيقان العارية . لم أكن رأيت – في حدود القرية ، وحتى في المنصورة – دراجة بيضاء . استقرت صورة المعادي على أنها الضاحية التي فيها فتاة تركب دراجة بيضاء !! . هنا أذكر أنه بعد أن أقمت بيتي في المعادي، بسطوة الصورة إياها، عاتبني أولادي لماذا لم أتجه إلى مصر الجديدة أو الزمالك ؟ فإنهما أجمل وأرقى من المعادي في رأي الجيل الجديد ؟! لم أستطع أن أصارحهم بما كانت عليه (دارنا في البلد)، وربما حدثتهما– مداعبا – عن فتاة الشورت والدراجة البيضاء .
– 3 –
جملة اعتراضية : المعادي التي يرى أولادي أنه كان باستطاعة أبيهم أن يسكنهم في موقع أرقى منها، كان أستاذي وصديقي الدكتور أحمد هيكل – أستاذ الأدب الأندلسي بدار العلوم ، ووزير الثقافة فيما بعد – طيب الله ثراه – كان يطلق عليها (اسكوريال مصر) تشبيهاً لها بضاحية (اسكوريال مدريد) حيث مركز المخطوطات والمكتبة العالمية، وقد زار بيتي ، وامتدح المعادي مجدداً ، ولم يتنازل عن الثناء عليها . وفيما علمت ، على السماع ، أن الإنجليز أثناء استعمارهم لمصر- هم الذين بدأوا إعمار ضاحية المعادي، وشاركهم بعض اليهود المصريين، الذين كانوا يرغبون في تسميتها (المعاد) – إحياءً لوعد (أرض المعاد) [ أي مكان العودة ، وليس الميعاد : زمن العودة ] . غير أن الحكومة المصرية رفضت هذه التسمية، فكانت (المعادي) نسبة إلى المراكب الصغيرة التي تنقل الناس بين شاطئي النيل، فالمعادي جمع معدية .
– 4 –
لعله أصبح مفهوماً الآن أن البلكونة هي شرفة غرفتي ، المطلة من الدور الثالث على الشارع ، وفيها أفضل الجلوس بخاصة نهارات الشتاء، حيث تقبلها الشمس الحانية في الضحى ، كما في العصاري، إذ يتوق الجسد إلى الدفء . من هذه الشرفة المغطاة تقريبا بغصون الشجر، تشاهد وتسمع الشارع ، دون أن يفطن أحد إلى وجودك إلا إذا أردت ذلك .
قد يحتاج الأمر إلى إضافة كاشفة عن طبيعة المعادي، وأنا أشبهها بساندوتش (الهمبرجر): طبقة من اللحم بين طبقتين من الخبز: الطبقة الشمالية في اتجاه حلوان (ضاحية طره = طره البلد ، وطره الأسمنت ، وقبلهما سجن طره)! ، أما الطبقة الجنوبية تجاه وسط القاهرة ، فتنبسط : حدائق المعادي ، وليست بها حدائق ، وبعدها ضاحية دار السلام ، وشهرتها الصين الشعبية لشدة زحامها ، وتراكم أحيائها العشوائية . فكما ترى أن موقع المعادي يغري بالهجرة إليها – ولو لساعات، اغتناماً للهدوء والعزلة غير المتوفرة في مواقع الجيران قبلها وبعدها .
أما شوارع المعادي الهادئة أكثر ساعات النهار ، وطوال الليل ، فتظللها أشجار تاريخية تضاهي أعمارنا وجوداً، وحتى لو نشطت حركة السيارات والمحلات في الشوارع الرئيسية ، فالشوارع الجانبية مثل شارعنا لا تزال تحظى بالهدوء، بل كثيراً ما تخلو تماماً من السيارات ، ومن العابرين إلا في أوقات محدودة ، فضلا عن الستر الذي توفره كثافة الأشجار نهاراً وليلاً ، وهذا ما يغري الشباب من طلاب وطالبات مدارس الحكومة في شمالي المعادي وجنوبيها – على التواعد والتلاقي ، مستفيدين من هذا السكون وهذه الظلال ، وهذه الرائحة الطيبة، وبخاصة أنه حتى على افتراض وجود عابرين من أهل المنطقة ، فإنهم – بحكم نشأتهم – لا يتطفلون على هؤلاء الزوار في شوارعهم خافتة الأضواء ، وبذلك يعيش هؤلاء المراهقون والشباب (من الجنسين) ما أراه أجمل مراحل أعمارهم، وأقوى عوامل جلدهم على مواجهة واقعهم، إذ يجمل الحب = الأمل ، ما نراه من خشونة المظهر ، وتواضع المنظر . لا يزيد الأمر عادة عن فتاة مراهقة [ لم يبد للأتراب من ثديها حجم – كما وصف قيس ليلى العامرية أول غرامه بها :
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ ]
لا تزال الفتاة المتسربة من مدرستها، تحتضن كتبها على صدرها، أو تعلق حقيبتها على ظهرها ، أما “الواد” – المعجب بقامته وقدرته الحركية – فإنه يسير بظهره ليظل في مواجهة الحبيبة، وقد يحمل لها علبة المرطبات ، أو كيس اللب ، لا تسمع لهما صوتاً ، فالهمس خفيض جداً ، وقد يفضلان التوقف والاستتار (النسبي) بين سيارتين من سيارات السكان ، ومن النادر أن نسمع بكاءً أو تأنيباً ، أو حتى ضحكاً ، فالهمس والإشارة وتقارب الأبدان هي الأبجدية المتفق عليها، أما الوقت المناسب فهو ما يوازي أوقات المدارس (أيام مدارس الفترتين= الفترة الثانية، أو بعدها ، أو مع أوائل المساء، بما يمكن أن يعتذر عنه بزمن الدروس الخاصة ، أو الستناتر في زمن السناتر)
لا ينحصر زبائن (هايد بارك) شارعنا في مراهقي ومراهقات المدارس الثانوية والإعدادية، فليس نادراً أن نجد ملامح (الصياعة) على بعض الوجوه الناضجة ، تعرفهم بجرأتهم في حركات التلامس (اليدوي) أو ارتفاع الصوت ، كما يمكن – بتأمل الملامح والحركات – التفرقة بين من يغامر بتجربة التجول في (هايد بارك) شارعنا للمرة الأولى، أو في أزمنة متباعدة ، وبين المغرمين (المدمنين) بالتجول في الشوارع وبخاصة بعد توقف حفلات السينما .
وهناك نوع مختلف من سكان الحي نفسه، وهؤلاء يخرجون وتخرجن لرياضة الكلاب (الثمينة/السمينة) المربوطة بالسلاسل . يحدث هذا عادة وقت العصاري ، وقد يمتد إلى ما بعد الغروب، وقد يحلو لهم في هدأة الغروب أن يجلسوا على السلم، أو على الرصيف في مدخل البيت، رأيت هذا المشهد كثيراً، ورأيت أعقاب السجائر على درجات السلم، وربما تراءى لي أن اكتب تحذيراً بخصوص التدخين ، غير أني تأسياً بالحق المشروع في الحب – توقفت عن المحاولة – وقد تذكرت بكثير من الإجلال ما سبق لي أن قرأته من أخبار محمد بن داود الظاهري – مؤلف أول كتاب في الحب ، وعنوانه : “الزهرة” – فقد اعتاد هذا الفقيه الجليل أن يصلي العشاء في مسجد معين، فكان إذا انتهى من صلاته ، وغادر المسجد وجد في أول طريقه من يستتران بظل المساء ، وهما يتناجيان ، فكان أن قرر هذا الفقيه ، عظيم الإيمان بالحرية ، وافتراض النقاء – أن يخرج من باب آخر من أبواب المسجد حتى لا يفسد على المتناجيين خلوتهما !!
https://gate.ahram.org.eg/daily/News/203809/86/815212/%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D8%A7/%D9%84%D9%88%D8%A7%D8%B0-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9–%D8%A8%D9%84%D9%83%D9%88%D9%86%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%AF-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%83-.aspx