شوقي : الإنسان والفنان



المقالة

شـــوقي

الإنســـان والفنــــان

هذه سياحة خاطفة ، في حياة أمير الشعراء ، وجوانب من فنه الشعري ، نقدمها بين يدي ذكراه الخالدة ، وقد مضى على رحيله نصف قرن ، ولأن الفن الأصيل لا يموت، والكلمة الصادقة لا تفنى ، من حيث تصير جزءا من ضمير الإنسانية وتطلعها السامي نحو الجمال ، فإن ذكرى هذا الشاعر العظيم تظل قادرة على الاستمرار ، عبر أشعاره ، وما تثير من حوار المفكرين والنقاد . لم نرد من سياحتنا الخاطفة أن تكون بحثا علميا ، أو أن تكون انطباعات ، هي بين هذا وذاك . ولم نرد من إحياء الذكرى أزجاء المديح ، فشوقي غني عن المدح ، وقد نال منه ما هو به جدير ، ومجرد الالتفات إليه ، والعكوف على ما كتب ، وما كتب الآخرون عنه ، هو في ذاته تكريم للفكر وللفن ، ولتراث أمتنا العريقة . سياحتنا الخاطفة لم تشر إلى مسرحيات شوقي التي تستحق رحلة خاصة متأنية، ولم تشر إلى الكثير من ظاهرات فنه ، وبخاصة مطولاته التاريخية ، ومدائحه النبوية ، وشعره القصصي الرمزي الذي كتب للصغار والكبار ، هذه جوانب ثرة تحتاج إلى جهد جديد ، ونكتفي الآن بما تيسر من ذكريات وملامح للإنسان وللشاعر الفنان .

 

أبي شــوقي

       

حين يتحدث الابنُ عن أبيه ، فإنه يكون الأحق بالتصديق ، لقدرته على التوثيق ، ولقربه وصلته المباشرة بما يروي . على أن هذه الأفضلية ، في رأينا ، يعادلها ما يعاندها ؛ ذلك لأن عاطفة الانتماء ، وإعظام الأب ، وهو شعورٌ غريزي ، سيحول بين الابن والرؤية المحايدة ، الموضوعية ، لصفات الأب وأخلاقه . هذا مبدأ عام ، لا يستثنى منه حسين شوقي ، الابن الأصغر لأمير الشعراء أحمد شوقي ، فيما كتبه عن والده ، في كتاب صغير عنوانه ” أبي شوقي ” . وفي وقفتنا القصيرة مع هذا الكتاب ، لا نهدف إلى تصنيف مادته الغنية ، ما بين إعجاب الابن بأبيه ، وموضوعية الخبر والحُكم ، فشوقي قد أعجب به عصره ، بل فُتن به  ، ولا يزال ، وسيبقى شاعرا عظيما بكل المقاييس . إن ما نهدف إليه أن نتوسم في صورة شوقي ، ونظام حياته ، ودخائل علاقاته ، من قريب ، وليس أقرب إليه من ابنه . تعود ذكريات المؤلف الابن ، إلى عام أربعة عشر وتسعمائة وألف ، قبيل الحرب العالمية الأولى . كان شوقي في ذلك الوقت ، عضواً في حاشية الخديو عباس حلمي ( الثاني ) ولا يُخفي حسين شوقي أن والده أقام ” كرمة ابن هانئ ” الأولى ، في ضاحية المطرية ، بعيدا عن القاهرة ، ليكون قريبا من ” قصر القبة ” حيث كان الخديو يفضل قضاء أوقات فراغه ، وكان يأنس إلى الشاعر ، بل يقول حسين :      ” لأنه كان شديد التعلق بأبي ، يرسل في طلبه في كل وقت ” ، ويبدو أنه لا مبالغة في هذا القول ، إذ نجد شواهد عليه من تصاريف الزمن مع الرجلين ، فقد قامت الحرب الأولى ، والخديو يقضي الصيف في تركيا ، وكانت تركيا قد دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء ، فمنع المندوب السامي البريطاني – وهو الحاكم الحقيقي لمصر في ذلك الحين- منع الخديو من العودة إلى وطنه وعاصمة ملكه !! ، أما شوقي ، الذي كان في معية الخديو في تركيا ، فلم يشمله قرار المنع ، ولكنه قرر البقاء على سبيل الوفاء ، غير أن الخديو أمره بالعودة إلى الوطن ؛ لأن أسرته كبيرة ، وستجد مشقة في غيابه !! وقد التقى الرجلان مرة أخرى بعد خمسة عشر عاماً في باريس ، وقد تغير الزمن ، يروي حسين شوقي قصة هذا اللقاء فيقول : ” كان سمو الخديو يقيم في باريس إذ ذاك ، فلما علم بمقدم أبي أرسل يطلبه ، فأشار بعض الناس على أبي بالتخلف ، إذ تضره هذه المقابلة ، ولكن أبي ذهب على الرغم من ذلك ، إذ عد عدم ذهابه قلة وفاء من جهة ؛ ولأنه كان تواقا لرؤية سموه بعد هذه الغيبة الطويلة من جهة أخرى … وقد وصف أبي لنا هذه المقابلة فقال إنها كانت مؤثرة ، فقد ضمّه سموه إلى صدره طويلا ، وقد اغرورقت عيونهما بالدموع ” !! . إن هذا يدل على عمق الصلة ، والإحساس بالفضل ، وهذا صحيح ، ووصف حسين شوقي ، لمعيشة أمير الشعراء ( والده ) في بيته ، ومركبه ، وطعامه ، وسفره ، ولهوه ، وسياحته ، يدل على مدى الترف الذي كان يعيش فيه شوقي ، ولم يكن له من مصدر غير عطايا وهبات أبناء إسماعيل !! . كانت الكرمة    ( في المطرية .. الضاحية المنفصلة وقتئذ ) ، حيث يعيش شوقي – داراً واسعة ، تحيط بها من كل جانب حديقة فسيحة ، ثم ابتنى شوقي ملحقاً للحديقة ، جعل منه ما يشبه المتحف ، إذ كان مغرما باقتناء الأثاث والتحف النادرة ، فكان في البيت ثلاث غرف للطعام ، وخمسة صالونات ، ذات ألوان وطرز مختلفة . أما الحديقة فكانت مليئة بشتى الطيور والحيوانات ، الأليفة وغير الأليفة . وكان في خدمة البيت عربتان ، حنطور، وفايتون ، ثم انضمت إليهما السيارة ، وقد كان شوقي من أوائل الذين اقتنوا السيارات في مصر . وحتى في إسبانيا ، في فترة المنفى التي استمرت نحو خمسة أعوام ، يصف حسين شوقي أيامهم هناك ، بما يجعلها سياحة ” جميلة ” لا ينقصها إلا حق العودة إلى الوطن ، فيذكر أن أباه اختار ” برشلونة ” دار إقامة ، لجمالها ، واعتدال جوها ، ومرح أهلها ، ولأن ملاهيها كانت تظل مفتوحة الأبواب حتى صياح الديك … وقد نزلت أسرة شوقي في فندق فاخر ، ثم انتقلت إلى فيلا في ضاحية قريبة ، ترتفع كثيرا عن قلب المدينة ، وتتيح لساكنها أن يرى البحر المتوسط . وإلى هذا الموقع يرجع الحنين إلى الوطن الذي ترجّعه قصائد شوقي الأندلسية ، وهذا الموقع يفسر أبياته في سينيته التي عارض فيها سينية البحتري ، وفيها :

مستطــــار إذا البــــــــواخر رنـت     أول الليل، أو عــوت بعد جرس
راهب في الضلوع للسفن فطن     كلما ثــــرن شــــاعهن بنقـس
يا ابنـــة اليــــمّ، ما أبــوك بخيل      مالــه مـولعــــاً بمنـــع وحبس
 أحــــرام علـــــــى بـلابله الـدو      ح حلال للطيـر من كل جنس؟

 

وإذ يذكر حسين شوقي أن الراتب الشهري الذي كان يصلهم في إسبانيا ، يبلغ مائتي جنيه ، وهو مبلغٌ وفيرٌ ، إذا قيس إلى زمنه ، نشعر أن حياتهم الأسرية كانت في المنفى أسعد منها في مصر ، أو أكثر تماسكا واستقراراً ، إذ كانت الأسرة تستطيع أن تخرج مجتمعة في نزهة ، رجالا ونساء ، وهو ما لم يكن متيسرا في مصر بسبب الحجاب، وكانت الطبيعة الجميلة تذكر فيهم النشاط والسعادة . أما شوقي ” الأب ” ، فقد كان موقفه مختلفا ، فهو قلق على وطنه ، وعلى مكانته ، وعلى ممتلكاته .. من هنا كان التشوق ، والأسى الذي نلمسه في أندلسياته ، وبخاصة في الأبيات التي أسلفنا .

 

أما صفات شوقي النفسية ، وطباعه ، كما يصورها ابنه ، فإنها طباع شاعر ، فيما يحسن وما يسوء ، فهو : سريع التقلب كالمحيط ، حسب تعبيره ، فطعام لم يهيأ كما رغب يعكر مزاجه ، ولكن إذا كان مزاجه معتدلا ، فهو لطيف غاية اللطف ، يدلل الجميع ويلاطفهم ، بل يرهق من حوله من أبنائه بالقبلات !! وهو أناني ، هكذا يقول الابن عن أبيه أمير الشعراء ، ولكن نموذج الأنانية طريف حقا ، فعندما كانت الأسرة في أوروبا ، كان شوقي يغضب من ولديه : علي وحسين ، حين يختاران الأصناف المألوفة من الطعام، إذا ما جلست الأسرة للغداء في المطعم ، إذ كان يجب عليهما ، في رأي شاعرنا ، أن يختارا أصنافاً جديدة مجهولة الأسماء ، كي يجربها ، فإذا راقته ، اختار منها في المرة القادمة !!

 

ونموذج أنانيته الآخر يرجع إلى نظام يومه ، فقد كان طعامه بلا مواعيد ، إذ يصحو قبيل الظهر ، وبذلك يتأخر إفطاره ، فيتأخر غداء الأسرة ، وهو يحرص على أن يتناولوا طعامهم معه ، ويخرج فيتعشى خارج البيت ، ويعود بعد منتصف الليل ، ليراجع شعره قبل النوم ، وهذا النوم يكون قريبا من الفجر أو بعده أحيانا . ولهذا يتغنى حسين بصفات أمه ، زوج أمير الشعراء ، ويراها صاحبة فضل في توفيقه في حياته الأدبية ” فهي لم توجه إليه لوما في حياته مرة ، مع أنه كان خليقا باللوم أحيانا !! ” كما يقول .

        ويصف حسين والده بالبوهيمية ، ويذكر بعض النوادر الطريفة التي تؤكد مزاجية شوقي ، وحبه للحياة ، وعدم التزامه بتقاليدها ، فقد كان يساعد ابنه – مؤلف الكتاب – على الهرب من المدرسة في المطرية ، ذلك لأن الطفل المدلل كان يكره أن يغادر الجنة التي يقيم فيها إلى حيث الأوامر والواجبات . ثم يذكر هذه الحادثة التي جرت في برشلونة .. أي أيام المنفى ، وقد ركب الشاعر وابنه سيارة الأتوبيس . يقول حسين : ” فصعد رجل عملاق بادي الترف والثراء ، يعلق سلسلة ذهبية بصدره ، وفي فمه سيجار ضخم ، ثم ما لبث أن استسلم للنوم في ركن من العربة ، وراح يغط غطيطا يرهق الأعصاب . وصعد ” نشال ” في مقتبل العمر ، جميل الصورة ، وهَمَّ بأن يخطف السلسلة ، ولكنه أدرك أن أبي يلمحه ، فأشار إليه إشارة برأسه مؤداها : هل آخذها ؟ فأجابه أبي برأسه : خذها !! فنشلها الشاب ونزل ، بعدما حيا أبي برفع قبعته له ! ولم يكد ينزل حتى التفتّ إلى أبي وقلت : هل يصح أن تترك النشال يأخذ سلسلة الرجل وهو نائم ؟! فأجاب : شيء عجيب يا بني ! لو كنت مقسما الحظوظ ، فلمن كنت تعطي السلسلة الذهبية ؟ أكنت تعطيها عملاقاً دميماً ، أم شاباً جميلا ؟ فقلت : كنت أعطيها الشاب الجميل ، فأجاب ببساطة : ها هو ذا أخذها ” !!

 

وقد كان شوقي مرهف الأعصاب ، يمزج الوهم بالواقع ، ويخلط الخيال والشعر بالحياة اليومية ومشكلاتها ، ومثال على ذلك أنه اشترى ” عزبة ” صغيرة قرب الإسكندرية ، وكانت الصفقة خاسرة ، لأن الأرض مجدبة ، فلما سأله أحد أصدقائه عن مدى جودة ترابها، أجاب : لابد أن تصبح أرضا طيبة ؛ لأن ابني حسين قد باركها ، إذ طاف حولها على ظهر حمار ، كما فعل السيد المسيح !! وكما كان شوقي يتفاءل بهذه الرؤى والأخيلة التي تعرض له في بعض ما يفعل ، فكذلك كان يتشاءم من الأشخاص الذين عُرفوا بمنحوس الطالع ، فكان إذا رأى أحدا منهم ركب سيارته من فوره ، وأمر السائق بالانطلاق!! كذلك كان يتشاءم من البوم ، وقد ذكر ذلك في أكثر من قصيدة ، وخصّ البوم بقصيدة من قصائده القصصية التي وضعها للتعليم والتربية ، وهي بعنوان : البلابل التي رباها البوم :

نُبِّئْتُ أن سليمـانَ الزمانِ ومَنْ       أصبـــى الطيــــورَ فناجَتْه وناجـاها
أعطى بلابلَــــــه يـوماً يــؤدبُها      لحكمـــةٍ عــــنده للبُـــــومِ يَرعاهـا
واشتاق يوماً من الأيام رؤيتَها       فأقبلَتْ وهي أعصى الطيرِ أفواها

أصابها العي حتى لا اقتدار لها     بأن تبــث نبــــــي الله شكـــــواها
فنال سيدَها مِنْ دائهـا غضَبٌ      وودَّ لــــو أنــــه بالــذبـــــح داواهــا
فجاءه الهدهدُ المعهودُ معتذراً     عنهـــا يقــول لمـــــولاه ومـــولاهـا
بلابلُ اللهِ لم تَخرَسْ ولا وُلدَتْ      خُــرساً ولكنّ بومَ الشــؤمِ رباها !!

 

الرابطة متوقعة بين تفاؤل شوقي وتشاؤمه ، وبين الخوف من الموت والمرض ، بل كان يضيق صدرا بمن يذكره بعمره ، فحين لقي الأمير شكيب أرسلان في باريس ، حين ذهب مع ولديه ليدرسا هناك ، سر كثيرا بلقاء الأمير ، لما كان بينهما من صداقة قديمة ، حين كان شوقي في فرنسا للدراسة ، وقال الأمير شكيب أرسلان وهو يعانق شوقي : إن صداقتهما ترجع إلى أربعين عاما . وهنا ظهرت غمامة حزن على وجه شوقي ، لهذه الملاحظة التي تزيد في سنه كثيرا . ويذكر حسين شوقي أيضا أن هاجس المرض بالسرطان كان يزعج أمير الشعراء ، فكان إذا رأى أي بثور على شفته أو لسانه ، سارع إلى الطبيب . وحين ماتت أخته ، وكان شديد الاعزاز لها ، لم يشيعها ، بل سافر إلى الإسكندرية . حتى انتهت أيام العزاء ، وكذلك كان يسافر إذا مرض أحد أبنائه ، حتى تنجلي الغمة . وترجع رغبته عن السفر إلى خوفه من الموت ، الذي تتوافر أسبابه في أدوات الركوب من الجمل إلى السيارة ، ثم الطيارة بعد ذلك . وحدث أن الخديو رغب في الحج ، وطلب من شوقي أن يصحبه فوافق ، بل أقنعه بأنه ذاهب معه ، غير أنه ، حين وصل الركب الخديو إلى مدينة بنها اختفى شوقي ، ولم يستطع أحد العثور عليه ، ثم استقبل الخديو عند عودته بقصيدة تهنئة تعد من روائعه ، وفيها اعتذار عن هربه ، ورفض السفر إلى الحجاز ، وهي التي مطلعها :

 إلى عرفات الله يا ابن محمد       عليك سلام الله في عرفات

أما الإشارة المقصودة فنجدها في قوله يناجي الخالق سبحانه :

دعاني إليك الصـــــالح ابن محمـدٍ     فكان جوابي صالـــــــح الدعــواتِ

وخيرني في سابح أو نجيبــــــــة     إليك ، فلم أختر سوى العبـــــرات

وقدمت أعذاري وذلي وخشيتي      وجئت بضعفي شافعا ، وشكاتي

 

وبعد …

فهذا جانب من الحياة الشخصية لأمير الشعراء ، لا غنى عنه لتفسير شعره ، والوعي بمراميه .

 

صورة خارجية

        حاول حسين شوقي أن يرسم ملامح عامة لصورة نفسية ، كما يراها ، في أبيه ، وتبقى الصورة الخارجية ، الحسية والاجتماعية التي نجدها في أكثر من مصدر ، كان على صلة مباشرة بأمير الشعراء . سنجد المنزلة الاجتماعية العزيزة ماثلة في كافة مراحل حياة شوقي ، مهما كان موقعه من قصر الحكم .

نشير إلى الاستقبال الحافل ، الذي استقبل به عقب عودته من المنفى . ولقد امتلأت محطة قطارات القاهرة بالشباب ، يتقدمهم أدباء مصر ، وعلى رأسهم حافظ إبراهيم ، بل يبالغ الابن في وصف الحفاوة التي قوبل بها والده ، وكأن مواكب المستقبلين كانت ممتدة ما بين ميدان باب الحديد ( ميدان رمسيس الآن ) ، إلى كرمة ابن هانئ ، في المطرية ، والمسافة تزيد عن عشرة كيلومترات !!

 

ومهما يكن من شيء ، فقد عاد شوقي من المنفى في إسبانيا ، وقد حدثت في غيبته تغيرات كثيرة .. من أهمها انتهاء الحرب العالمية ، وظهور سعد زغلول ، وقيام الثورة بقيادته ، ومن ثم ، فيما بعد : إعلان الملكية والدستور . فأين شوقي من كل هذه التطورات؟ لقد استطاع رجل الحاشية ، وشاعر البلاط القديم ، استطاع بلباقته ، ومقدرته الفنية ، أن يأخذ مكانه اللائق في ظل الأوضاع المتغيرة ، دون أن ينقلب على شيء مما كان وظل يؤمن به . لقد كان وفيا للقصر حقا ، كما كان وطنيا مخلصا ، وصاحب رؤية حضارية وأخلاقية أصيلة ، ولهذا اعتدّ نفسه بحق – مساهما ومؤسسا لكثير مما حدث في بلاده إبان غيبته . وقد انعكس هذا التوازن على علاقته بأصحاب السلطان قبل الحرب وبعدها ، فقد حضر الخديو بنفسه حفل زفاف أمينة ، ابنة شوقي الكبرى ، وكان ظهور الخديو في حديقة الكرمة بالمطرية لتقديم التهنئة للعروس شيئا مثيراً حقاً ، أما بعد العودة من المنفى ، وفي زواج علي ، الابن الأوسط بعد أمينة ، فإن سعد زغلول بنفسه قد حضر الحفل ، برغم تقدمه في السن ومرضه . ويهتم حسين شوقي بإبراز العلاقة بين أمير الشعراء ، وسعد زغلول ، فيقرر أن هذه العلاقة تعرضت للفتور ، والجفوة ، ولكن شاعرنا كان يحمل ذكريات قديمة ، لمجالس سعد ولقاءاته ، مما أعان على أن يتوسط شابٌ من شباب الوفد هو الأستاذ الجديلي ، وكان شديد الإعجاب بشوقي ، وتمكن شوقي من ضمه إلى مريديه ، من ذوي المنزلة الخاصة ، فقد تمكن الجديلي من الجمع بين الزعيم والشاعر ، وهنا أكمل شوقي شوطه في رعاية سعد زغلول ، وقال فيه شعرا رائقاً، حين تعرض للاغتيال ونجا ، وحين سافر للمفاوضة ، وحين مات . وهذا يفسر تلك المنزلة الخاصة التي احتلها شوقي في نفس سعد ، برغم أنه لم ينضم لحزبه ، فقد رشحه لعضوية مجلس الشيوخ عن ” دائرة سيناء ” ، التي تخلو من المنافسة الحزبية ، وبالفعل. صار شوقي عضوا في مجلس الشيوخ عن سيناء ، وقد انتخب بالتزكية أيضا !! وهكذا أخذ الشاعر يتردد على بيت الأمة طوال حياة سعد زغلول .. وقد يحق لنا هنا أن نقطع سياق ذكريات الابن عن أبيه ، لنقول أن هوى شوقي كان يميل إلى الاتجاه الآخر ، فعلاقته بالأستاذ لطفي السيد أسبق وأقوى ، وحين أراد أن يُخرج ديوانه ( الجزء الأول في طبعته الثانية ) فإن الدكتور هيكل تولى كتابة المقدمة ، ولابد أن يكون لهذا كله دلالة، كما كان لتردده على بيت الأمة دلالة أخرى . بل إن حسين شوقي يكشف الستار عن صلة أخرى نجد لها شواهد في ديوان شوقي ، وهي صلته بمصطفى كامل ، أما الإضافة فتتجلى فيما يشير إليه من صلة قديمة بين مصطفى كامل الزعيم الوطني ، وعلي كامل ، والد شاعرنا ، وكان مصطفى قد ألف مسرحية وهو طالب في مدرسة الحقوق ، بعنوان ” فتح الأندلس ” وأهدى نسخة منها إلى ” علي كامل ” ، والد أحمد شوقي ، وكتب الإهداء بخطه ، وبعبارة تحمل الود والتقدير .

 

يكتمل الإطار الاجتماعي والفني ، حول صورة شوقي الشخصية ، بالتعرف على جوانب كان لها تأثير واضح على فن شوقي ، فيذكر أنه حين سافر إلى فرنسا مع أولاده ليدرس الأبناء هناك ، كان شوقي يتردد ، بانتظام ، على مسرح الكوميدي فرانسيز ، كي يزداد علما في الفن المسرحي ، ولأنه كان يفكر في عمل مسرحيات شعرية ، بعد أن كان قد أنجز واحدة منها ، هي ” علي بك الكبير ” في مطلع شبابه ، ثم انقطع عن الشعر المسرحي نحو أربعين عاما ، ليعود إليه في العامين الأخيرين من حياته الحافلة ، ويقدم إلى المكتبة العربية ، سبع مسرحيات لا يُجهل مكانُها ، ولا تُنكر مكانتها .

 

هذا ما يخص الفن المسرحي عند شوقي ، وهي إشارة لا تغني عن ضرورة العودة إلى هذا الموضوع . أما علاقة شوقي بالشعر مكتوبا باللهجة العامية ، فأغلب الظن أن سببها إعجاب شوقي بصوت ” محمد عبد الوهاب ” ، الذي تعرف إليه في الإسكندرية ، وسُحر بإنشاده ، فدعاه شوقي إلى حفل افتتاح كرمة ابن هانئ الجديدة   ( على شاطئ النيل ) ، في الجيزة ، وكان حفل الافتتاح هو نفسه حفل زفاف ” علي شوقي ” ابن أمير الشعراء . كانت الكرمة في تلك الليلة – كما يقول حسين شوقي – أشبه بسوق عكاظ ، أما أمير الشعراء ، فقد وضع قطعة بمناسبة الزفاف ، رأى أن تكون بالعامية ، وقد غناها عبد الوهاب أمام العروسين ، ومنها :

دار البشــأيـر مجلسنــــــــا    وليــــل زفــافك مــؤنسنا

إن شالله تفــرح يا عريسنا    وإن شالله دايمـا نفرح بك

* * *

على السعـادة وعلى طيــرها     أدخـل على الدنيا وخيرها

فرحة تشوف في ابنك غيرها     وتعيش لأهلك ، ولصحبك

وختام هذه الأغنية الرقيقة ، وفيها يشير إلى العروس في ليلة زفافها إلى ابنه :

دنيــا جميلــــــة قــوم خدها     ستك ، وبالمعروف سيدها

قوم يا عريسنا بـوس إيدها     وصل ، واطلـــب ، وأتمنـى

 

رحم الله أمير الشعراء ، فقد كان في هذه المقطوعة ، أباً ، قبل أن يكون شاعراً ، هل نجد أجمل وأعذب ، من هذه الإشارات اللطيفة ، في ليلة العُمر ، التي جددها ، شعراً، في زفاف ولده ؟

 

أميــر الشعــراء

قصة مبايعة شوقي بإمارة الشعر جديرة بأن تروى . بدأت باقتراح بإقامة احتفال بمناسبة ظهور الطبعة الثانية من ديوانه ” الشوقيات ” ( 1924) – ولكن هذا الاحتفال ، أو فكرته ، ما لبثت أن اتسعت ، ودعي إليها من شعراء العربية من كافة الأقطار عدد وفير ، جاؤوا بقصائد البيعة وكلمات التعظيم والحفاوة .

 

أقيم الحفل في دار أوبرا القاهرة ، سنة 1927 ، وقد كان له تأثيره في اتجاه شوقي إلى المسرح الشعري في أعقابه ، حيث تمنى عدد من أصحاب الفكر أن يعود شوقي إلى ولوج هذا الباب المهم في تاريخ الشعر العربي ، بعد أن أبدع فيه عملا واحدا قبل هذا التاريخ بثلاثين عاما ، عن (علي بك الكبير) . وبالفعل عاد شوقي ليقدم إلى المكتبة العربية وفن المسرح ست مسرحيات من أعذب ما كتب في المسرح الشعري العربي حتى اليوم .

حضر الحفل كثيرون من كبار شعراء العربية ، بايعوا شوقي بالإمارة ، كما بايعه أولئك الذين قعدت بهم ظروف ما عن الحضور ، لم يترددوا في إعلانها في أشعارهم . وقد كان الحفل تحت رعاية الملك ( فؤاد ) ، ورياسة سعد . وبعد إلقاء كلمة سعد ، الذي كان معتكفاً لمرضه ، وأناب من يقرؤها ، بدأت الوفود تلقي كلماتها ، فقام الأستاذ العلامة: محمد كرد علي ، نائبا عن المجمع العلمي العربي بدمشق ، وتلاه شبلي ملاط شاعر لبنان فألقى قصيدة عصماء ، وتبعه شاعر القطرين : خليل مطران ، ثم حافظ إبراهيم . واستكمل الاحتفال في اليوم التالي ، فألقى سماحة السيد أمين الحسيني كلمة فلسطين ، وعاد خليل مطران فألقى قصيدة للأمير شكيب أرسلان ، وبعده نهض الأستاذ إسعاف النشاشيبي فألقى خطبة عنوانها : العربية وشاعرها الكبير أحمد شوقي ، وتبعه بمحاضرة أحد علماء تطوان بالمغرب ، ثم ألقيت قصيدة للأمير صالح بن سعد بن سالم ؛ من عدن ، وأخرى لبدر الدين النعساني من علماء حلب ، ثم كلمة للمستشرق البلجيكي فندبرج ، نائبا عن شعراء وطنه . كما استقبل شوقي بعض الهدايا التي قدمت إليه بهذه المناسبة ، وقد أشار إلى بعضها في قصيدته التي حيا بها المحتفين به ، على سبيل الشكر والعرفان، فقال عن نخلة صغيرة من الذهب الخالص ، ثمارها لؤلؤ وقاعدتها مرجان ، أهداها إليه أمير البحرين :

قلدتني الملوك من لؤلؤ البحريـ        ـن آلاءها ، ومن مـــرجانه

نخلة لا تزال في الشرق معنـى       من بـداواته ومن عُمرانه

ويقول في هدية النادي العربي في بمباي ، وكانت قلما من الفضة :

وحبتني بومباي فيهـا يــــراعا       أفرغ الـود فيـــه مــن عقيــانه

ليس تُلقي يراعهـا الهـــند إلا        في ذرا الخلق أو وراء ضمانه

انتضيه انتضاء موسى عصاه       يفرق المســتبد من ثعبــــانه

 

وقد أطلنا الوقوف عند حفل مبايعة شوقي بإمارة الشعر ، لأنه سيظهر جانباً يتعلق بشوقي ، وجانبا أكثر أهمية ، يتعلق بالشعور العربي والفكر العربي . ما يتعلق بشوقي أمرٌ جليٌ ، فهذا الإجماع ، وتلك الحفاوة ، دليلان على منزلة شوقي في نفوس شعراء عصره ومفكريه ، وأما ما يتعلق بالأمة العربية ، فها أنت ذا تراها أمة واحدة ، لسانها واحد ، والمترجم عن شعورها واحد ، والذي تراه جديرا بحبها وإعجابها ، لا تتساءل : من أين جاء ؟ ولا إلى أي بلد ينتمي ؟ أو عن أي اتجاه يعبر ؟ وما هو تصنيفه الطبقي ؟ لم يلتفت أحدٌ لشيء من هذا ، فأمام الشاعر العبقري تنمحي كل التساؤلات ، وتغرق كل الترهات ، في فيض عبقريته ، وسنا إلهامه العظيم .

 

لقد لامسنا نهاية أمير الشعراء أو كدنا ، لأن حفل المبايعة أقيم قبل خمس سنوات من وفاته ، وهنا قد يتوجب علينا أن نعود إلى البداية من جديد ، تلك البداية التي لم يعرضها كتاب ولده حسين شوقي ، لسبب موضوعي : أنه لم يشهدها ، وسبب نفسي : أنها قد تنطوي على مالا يحب الابن أن يتحدث به عن أبيه !! سنلتقي بملامح البداية ، وألوان الأصدقاء ومستوى الصحبة ، وكيف وُجد الألداء ؟ في كتاب آخر ، ألفه أحمد محفوظ ، وعلاقته بشوقي كانت بين السكرتير الشخصي ، والمساعد العلمي ، فقد كان الفتى مصححا بدار الكتب ، أي تحت رياسة حافظ إبراهيم ، ولكن حافظا كان مُجهدا مكافحاً ، ما كان باستطاعته أن يستخلص بالأجر من يعاونه على ترتيب أوراقه ، أو مراجعة ما يرى ضرورة مراجعته من الحديث ، بل لعل حافظا لم يكن أقل بؤسا من أحمد محفوظ نفسه ، مع اختلاف الدرجة . أما شوقي فقد وُلد في رحاب القصر ، وتعهدته الأيدي الناعمة والإشراف والرعاية بكل مستوياتها من أول يوم ، حتى نال إجازة الحقوق في فرنسا ، وكان مكانه مُعدا بين الحاشية قبل أن يعود من بعثته ، فأمره في علاقته بالآخرين يختلف كثيرا عن حافظ واستطاعته المحدودة ، وهذه حكاية طريفة ، لها دلالتها، رواها أحمد محفوظ في كتابه عن حافظ ، وليس في كتابه عن شوقي ، وبالمناسبة ، ولهذا التصرف دلالته أيضا ، نجد هذا الشاب الذي عمل تحت رياسة حافظ نهارا ، وشوقي ليلا ، يصدر كتابه عن شوقي بمجرد وفاته ، أما كتابه عن حافظ فقد انتظر بضع سنين !! أما الحكاية التي روى ، فهي أن حافظا في إحدى سنوات بؤسه ، لم يكن معه شيء من المال ، واستشار المؤلف (أحمد محفوظ) في أن يطلب من شوقي مائة جنيه على سبيل القرض . قال له محفوظ : يا حافظ بك ، أنت جعلت رأسك برأس شوقي ، والناس تقول : شوقي وحافظ ، فكيف تستدين منه ؟ وشوقي يعرف أنك ستعجز عن سداد القرض ، ولهذا إذا طلبت مائة ، سيعطيك خمسين ، وكأنها منحة . فلماذا تهبط إلى هذه الدرج ؟ فأمسك حافظ مضطرا !! هذه لمحة دالة على الوضع الاجتماعي لكلا الشاعرين الكبيرين .

 

وإذا كان من حقنا أن نتطرق إلى شعر شوقي ، في أثناء هذه الكلمة العاجلة عن شوقي الإنسان ، بعيدا عما يتصل بشاعريته ، فإننا نقول إن شعر شوقي يصدر عن إحساس رهيف بالأناقة والترف ، هذه الأناقة نجدها في اختيار الألفاظ ، وفي رسم الصور، وفي مراعاة الآداب العامة والذوق الرفيع حين يضطر إلى التعبير عن بعض المعاني الفجة أو الوضيعة في مواقف من مسرحياته وقصائده ، وقد يكون مثيرا للتأمل ألا نجد لهذه الأناقة الفنية – إن صح القول – منابع في تعامله مع الألوان والثياب والزينة ، إذْ لم يستبق من أصول الأناقة غير الحرص على حلاقة ذقنه يوميا ، يباشر ذلك خادمه الخاص، وحين احتاج إلى حلاق محترف ، فإنه منح دكانا في عمارته لأحد الحلاقين ليضمن قربه منه ، ومنحه راتبا ثابتا حتى لا يشغل عنه بالزبائن ، إذا ما احتاج إليه !! أما ما عدا ذلك فإنه كان نموذجا للنمطية التي تقترب من الكسل والإهمال : ” لا يتعلق جوربُه بساقه أبدا ، ولا يمسكه ماسك ، فهو أبدا مسترخ فوق حذائه ، لم يُر قط بغير صدار ، فإذا جاء الشتاء ظاهر بين صدارين ، أعلاهما من صوف الجمل ، استفاض حتى جاوز الجاكتة ، وبان منها .. كل بنائقه منشأة شتاء وصيفا ، لم يرسل منها كرافتة قط ، إنما هو ” بمباغ ” تحمله حديدة كالخطاف تتشبث بالبنيقة ، المزدوجة المنشاة ” .

 

ويُسرف أحمد محفوظ في وصف فوضى شوقي في بيته ، ” فقد كان إذا قرأ كتابا قذف به إلى غير وجهه ، وإذا استعمل أداة رمى بها إلى حيث لا يعنيه مستقرها ، وذلك لقلة صبره ” ، أما حبه لتعدد أصناف الطعام على المائدة ، وغرامه بالفاكهة ينتقيها بنفسه من أشهر مواقع بيعها ، فهذا مما يلح عليه الكاتب ، ويؤكده بأكثر من طريقة !!

انبثـاق التجــربة

حين نطرح السؤال : كيف يبدع الشاعر قصيدة ، ونحاول أن نكتشف الجواب ، فإنه ينبغي أن نشير إلى أمرين ،يُلقيان بدرجات متفاوتة من الغموض على هذه المحاولة. أولهما : أن الشاعر لا يرغب في الكشف عن الطريقة التي ينظم بها قصيدته ، حتى لا يقلل ذلك من إحساسه وإحساس الآخرين بتفرده بالموهبة ، وتميزه بقدرة أو خبرة تستعصي على التحليل . كما أنه قد يكون عاجزاً عن مراقبة نفسه في تهيئتها لإبداع قصيدة ، لما يمكن أن نلمح من تعارض بين يقظة الحاسة الرقابية ، وتلقائية التخييل والتصوير ، وحريته في التداعي . والأمر الثاني يأتي من زاوية النقاد وليس من جهة الشعراء ، إذ يرى أكثرهم أن المجال الحق للنقد إنما هو التعامل مع القصيدة ، وقد اكتملت ، ونُشرت على الناس ، من حيث هي بناء لغوي موسيقي ينهض على شبكة من الصور والعلاقات المعنوية والصوتية ، أما ما يسبق ذلك من تفاعلات وتداعيات في داخل عقل الشاعر ووجدانه ، فإنه يبقى من بحوث علم النفس ، وليس من النقد في شيء . ومهما يكن من أمر فإننا لسنا بصدد مناقشة هذين الأمرين ، وهو ممكن على أية حال ، غير أن القضية ذاتها تأخذ بُعدا آخر حين تتصل بشوقي ، وشعر شوقي ، فأمير الشعراء؛ في رأي عامة نقاده ، شاعر غيري ، بمعنى أنه يهتم بالتعبير عن الآخرين ، وعن الأشياء الخارجية ، ولا يُعنى بالتعبير عن نفسه ، وتصوير خوالجه الذاتية ، وهو شاعر مناسبات في الأعم الأغلب من قصائده ، وحين نتصفح ديوانه فإننا سنجد مناسبة معلنة كانت وراء القسم الأكبر من قصائد الديوان !! وإذا كان من المسلم به أنه لا فن دون مناسبة ، إذ لابد من حافز ، فإن ” المناسبة ” بالنسبة لقصائد شوقي ، لا تدخل في نطاق الدوافع النفسية الداخلية ، التي تعطي الإبداع الشعري قوة وحرارة وتأثيرا ، يتجاوز به الشعر مقدرة النثر في التعبير عن ذات المعاني والمشاعر، وإنما هي مناسبات خارجية ، مفروضة ، تمليها علاقة الشاعر بوجهاء عصره ، والأحداث من حوله ، فإذا بدأ العام الهجري لابد من قصيدة ، وإذا تولى خليفة جديد من آل عثمان فإن التهنئة واجبة ، وإذا مات عظيم فإن القعود عن رثائه أمر غير محمود … هذا على الرغم من أن رغبات الشاعر الحقيقية قد تكون رافضة لكل ذلك ، ولكنه يقسرها لتقوم بما يعتقد أنه من واجباته ، وفي هذا ما فيه من احتمالات التلفيق ، والترقيع ، والافتعال ، والمبالغة ، وتزييف المواقف واصطناع المشاعر .

 

لا ترفض الأخبار المروية عن شوقي أن تشير إلى هذا التنازع المتوقع بين الرفض الداخلي ، وإكراه النفس على اصطناع الشعر ، والمثل الطريف الذي يروي في هذا المجال أن القائد التركي أدهم باشا ، وردت أخبار بوفاته ، ولما كان من عظماء الدولة فإن المنتظر من شوقي أن يقول في رثائه ، وبخاصة إذا كان قد قال من قبل في تمجيد انتصاراته !! فهكذا يصور الخبرُ أمير الشعراء وقد جلس في شرفة قصره مع الصباح الباكر لا يجد مطلعا لقصيدة رثاء !! احتال للأمر بما تعود من شرب كوب من البيض النييء المخفوق ، ثم عدد من أقداح القهوة دون جدوى . وأحس خادمه الخاص بما يعاني سيده من ضيق وقلق ، فسأله عن السبب ، فأفضى إليه شوقي بالسبب الحقيقي، وهو أنه ضائق الصدر قلق ، فسأله الخادم عن السبب ، فأفضى إليه شوقي بالسبب الحقيقي ، وهو أنه يريد رثاء أدهم باشا ، ولا يجد معنى مبتكرا يبدأ به ، فقال الخادم متألما للمفارقة الغريبة في عجز العبقرية : حقا إنها لمصيبة ولكنها ليست مصيبة وفاة أدهم ، بقدر ما هي مصيبة عجز أمير الشعراء عن قول الشعر ! زعموا أن هذا التعليق من الخادم ، هو الذي منح ” شوقي ” مطلعه في رثاء القائد التركي :

مصاب بني الدنيا عظيمٌ بأدهم     وأعظم منه حيرة الشعر في فمي

أأنطق والأنباء تتــــــرى بطيب      وأسكـــت والأنبــــاء تتـرى بمؤلم ؟

أتيت بغال في الثنــــاء منضد      فمـن لي بغـال في الرثاء منظــــم

 

فكما نرى ، ليس في هذا المطلع شيء من الشعر ، وإنما هو كلام ، أو تقرير ، عن علاقة الشاعر بالمرثي . ولعل هذا الخبر – على افتراض صحته – يفسر لنا المنزلق الخطير المؤسف ، الذي هوت فيه مرثية أخرى من مراثي شوقي ، وكانت في “باشا” آخر، هو الدكتور عثمان غالب ، وكان عالما بالنبات يشار إليه بالبنان – كما يقول هامش القصيدة ، ومن علاقة المرثي بالنبات كان المنطلق الخاطئ لمعاني رثائه ، إذ بالغ شوقي مبالغة ممجوجة في إظهار حزن الطبيعة على هذا العالم ، وأسرف في تعديد أنواع النبات، وأشتق من أسمائها وأجزائها صور رثائه ، فكانت هذه المرثية العجيبة جديرة بأن تثير سخرية العقاد ، في كتابة ” الديوان … ” ، وأن يتساءل بحق : هل أراد شوقي أن يرثي الرجل ، أو أن يضحكنا منه ؟! وقد نعود إلى هذه القصيدة ، ونكتفي الآن بأن نشير إلى مطلعها ، وفيه يقول شوقي :

ضجـــت لمصــــرع غالب       في الأرض مملكة النبات

أمسـت بتيجـــــان عليــ       ـه من الحداد منكســــات

قامت على سـاق لغيــ      ـبته وأقعــــدت الجهـــــات

في مأتم تلقـي الطـبيـ       ـيعة فيه بيـــــن النائحات

وترى نجوم الأرض من       جـــزع مـــوائد كاسفــات

والزهر فـي أكمــامــه      يبكــــي بــدمــع الغاديات

 

إلى آخر هذا الكلام الذي نجد صعوبة ، أو استحالة ، في إدخاله من باب الشعر . لا يعني هذا بالضرورة ، أن شعر شوقي كله ، أو أكثره ، قد أفسده هذا التمحل الناتج عن المناسبة الخارجية ، وأن القصائد تولد عنده من وحي كلمة عابرة يقولها الخادم ، أو توحي بها المهنة ، أو ما شابه ذلك ، فكثير من قصائد شوقي قد عبر عن صدق في الإحساس ، وبراعة في التصوير ، كما خضع لألوان من المراجعة والتثقيف ، تدل على مقدار ما كان يبذل من جهد في صقل شعره ، وتجويده . ونكتفي هنا بمثل واحد على روعة تصويره ، من قصيدته الخالدة ” النيل ” ، وفيه يصور ما زعموا من إلقاء عروس كل عام إذا وافى الفيضان ، وأن ذلك كان من عقائدهم التي تقدس النيل :

زفت إلى مــــلك الملــوك يحثهـا      دين ، ويدفعها هــوى وتشوق

ولربما حسدت عليــــك مكانهـــا      ترب تمسح بالعـروس وتحـدق

مجلوة في الفلك يحدو فلكهـــا     بالشــــاطئين مــزغرد ومصـفق
في مهـــــرجان هـزت الدنيا به      أعطافها واختـال فيـه المشرق
فرعـــون تحــــــت لوائه وبناته     يجرى بهن على السفين الزورق
حتى إذا بلغت مواكبه المـدى      وجرى لغــايته القضاء الأسبـــق
وكسا سماء المهرجان جــلالة      سيف المنيـة وهـو صلت يبــرق
وتلفتت في اليـّم كل سفينـة       وانثـال بالوادى الجموع وحلقوا
ألقت إليك بنفسهـا ونفيسهـا       وأتتك شيقة حــــواها شيــــق

 

هذه صورة رائعة الحسن ، تنبض بالألوان والأصوات والحركة الظاهرة ، والباطنة، وفيها من الصدق والإحاطة وجمال الصياغة ، وامتداد النفس ، ما يتجاوز المألوف في مأثور الشعر العربي ، في كل عصوره .

 

أما تعديل أمير الشعراء في قصائده ، بالحذف والتبديل والإضافة ، فقد عني به الدكتور شوقي ضيف في كتابه عن ” شوقي ” ، وقد اهتم الأستاذ الجليل بجمع مسودات ما أتيح له من قصائد شوقي ، ومن الحق ما يلاحظه على هذه المسودات من ندرة التعديل والتغيير ، إذا ما قورنت إلى النص المنشور في الديوان ، إذا صح أنه ليست هنالك مسودات مفقودة ، وأن أكثر التعديل يتجه إلى الألفاظ ، وفي أحيان قليلة إلى الصور ، وربما كانت الندرة راجعة إلى ما ذكر من أن ” شوقي ” كان قوي الحافظة ، وكان يختزن الشعر في ذاكرته ثم يمليه ، فليس بمستبعد أن تتضمن مرحلة الصياغة والإملاء كثيرا من التغييرات . وقد سجل الباحث الفاضل أربعة مواضع عدل فيها شوقي ، ضمن قصيدته في انتصار أتاتورك ، المشهورة ، ومطلعها :

الله أكبر كم في الفتح من عجب     يا خالد الترك جدد خالد العرب

 

كما سجل عددا من التغييرات في مسرحية ” مجنون ليلى ” ، ونحن نعرف أن هذه المسرحية مسبوقة بمسرحية مبكرة ، هي ” علي بيك الكبير ” التي أخضعت إلى تعديل شامل ، يمكن أن يقال معه إنها صُنعت من جديد ، ومسبوقة أيضا بمسرحية بعنوان ” مصرع كليوباترا ” التي أخضعت لتعديلات أخرى ، قال الدكتور سعيد عبده ، وكان محبا لشوقي ، وتلميذا على شاعريته ، إنه شارك في إجراء بعضها .

 

وهذا – كله يعني في النهاية أن القصيدة عند شوقي قد ارتبطت في درجة جودتها وإتقانها ، بالمستوى الذي تصدر عنه ، وحرية الشاعر في السماح لها بأن تولد ولادة طبيعية ، أو أن تبتسر ، وتُكرَه – لدافع أو لآخر ، على اقتحام الدنيا قبل أوانها .

 

شــوقي والعقــاد

صدر كتاب ” الديوان : في الأدب والنقد ” في جزئين ، أوائل عام 1921 ، بشَّرَ كاتب مقدمة الجزء الأول بعشرة أجزاء تصدر تباعا ، ولكن الأمر اقتصر على هذين الجزئين ، وفيهما – فيما نرى – أكثر من الكفاية ، لا نقصد بذلك أنهما كشفا عن نظرية العقاد في الشعر ، أو أحاطا بمآخذه على شاعرية شوقي وشعره ، فهذا ما لا يدعيه المؤلف، أو المؤلفان ، ولكن هذا الأسلوب التهجمي ، الساخر الحاد ، الباحث عن العيوب يتصيدها ، ولا يترفق أو يتريث في عرضها ومناقشتها ، كان جديرا – إذا استمر – بأن يترك في الحياة الأدبية ، والنقدية بوجه خاص ، آثارا سلبية متنوعة ، والخلاصة أن مثل هذا الأسلوب يغني قليله عن كثيره . وليس معنى ما ألمحنا إليه أننا نُهوِّن من أثر كتاب ” الديوان ” ، فمن حق هذا الكتاب أن يعتبر بداية النقد الجديد ، وهذا ما تنص عليه المقدمة في تحديد موضوعه : فـ ” موضوعه الأدب عامة ، ووجهته الإبانة عن المذهب الجديد في الشعر والنقد والكتابة ، وقد سمع الناس كثيرا عن هذا المذهب في بضع السنوات الأخيرة ، ورأوا بعض آثاره ، وتهيأت الأذهان الفنية المهذبة لفهمه ، والتسليم بالعيوب التي تؤخذ على شعراء الجيل الماضي ، وكتّابه ، ومن سبقهم من المقلدين ” . هذا التحديد الواعي لدور الديوان صحيح تماما ، إذا نظرنا إلى الأسس النظرية التي قام عليها منهجه في النقد ، ولكنه بعيد عن الصدق إذا دخلنا إلى تفاصيله ، فقد ركز هجومه الحاد على شوقي وشعره ، ولم يكن شوقي مقلدا في كل شعره ، أو في جل شعره ، وعلى افتراض أنه من المقلدين ، فإنه في تقليده لم يكن سيئا ، لم يكن محروما من أصالة الشاعرية ، وصدق الحاسة ، ورحابة المعرفة . وقد يكون للمازني بعض الحق فيما وجهه إلى مقالات المنفلوطي القصصية من مآخذ على موضوعها وترتيب حكايتها ولغتها، رغم اعتراضنا على التهكم والشتائم من الأساس ، ولكن ما وجه الحق فيما كتبه العقاد يهاجم الشاعر عبد الرحمن شكري ، حتى يسميه ” صنم الألاعيب ” وهو صديقه القديم ، وشريكه ، بل لعله يسبقه في الدعوة إلى التجديد !!؟

 ونعود إلى مكان شوقي في ديوان العقاد ، وقد كتب عنه ثمانية فصول ، تكلم في فصلين منها عن شعر شوقي بوجه عام ، وفي هذين الفصلين قدم العقاد أهم مبادئ مفهوم الشعر عنده ، وأدوات الشاعر ، وفي الفصول الأخرى تناول قصائد بعينها ، وقدم عنها دراسة تحليلية تطبيقية ، كانت بمثابة البرهان العملي لما دعا إليه العقاد ، من مبادئ نظرية . وإذا ما نحينا عبارات التهكم والمبالغة جانبا ، فإننا نستطيع أن نجد أهم ركائز المذهب الجديد في الأدب والنقد واضحة بغير لبس .

 

سنحاول أن نتناسى ما كتبه العقاد عن جنون شوقي بالشهرة ، ورشوة الصحف لتكتب عنه ، وتخترع له الألقاب والصفات ، ونصل إلى نقده لقصيدة شوقي في رثاء الزعيم محمد فريد ، ومطلعها :

كل حي على المنيــة غــــــادِ       تتوالي الركابُ والموتُ حادي

ذهب الأولــــون قـــرنا فقــرنا       لم يــدم حاضر ولم يبـــق باد

هل ترى منهم وتسمع عنهم       غيــــر بــــاقــي مآثر وأيــادي

وسنحاول أن نتناسى – مرة أخرى – تهكم العقاد من هذا المطلع ، وربطه إلى ما نسمع من أفواه المكدين والشحاذين ، لنصل إلى واحد من أهم أسس التجديد في الأسلوب الفني ، وذلك حين يعترض العقاد على أن يكون هدف التشبيه الإبانة عن علاقة تشابه تدرك بالحواس ، بصرف النظر عن المعنى النفسي ، الذي يرى بحق ، أنه الهدف الجوهري للصورة الشعرية !! ومن هنا يرفض العقاد تشبيه البدر بالخلخال عند القدماء ، وبمنجل الحصاد عند شوقي ، فليست صورة البدر الحسية مما يحتاج إلى تقريب ، وإنما إيحاءاته وارتباطاته النفسية ، وهذه هي الوظيفة الأساسية النقدية  يكتب العقاد – في الديوان – مخاطبا ” شوقي ” : ” فاعلم ، أيها الشاعر العظيم ، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء ، لا من يعددها ، ويحصي أشكالها وألوانها ، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه ، وإنما مزيته أن يقول ما هو ، ويكشف عن لُبابه وصلة الحياة به . وليس هم الناس من القصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع ، وإنما همهم أن يتعاطفوا ، ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه ، وخلاصة ما استطابه أو كرهه ..” .

 

وفي مرثية أخرى ، وهي قصيدة شوقي في رثاء مصطفى كامل ، يقدم العقاد مفهومه العملي لمبدأ الوحدة العضوية في القصيدة ، والوحدة العضوية تعني أن يرتب الشاعر أفكاره الجزئية في إطار الفكرة العامة لقصيدته ، بحيث تتدج في خط متصاعد من البداية إلى الختام ، وبحيث يستوفي كل فكرة في مكانها من القصيدة ، فلا تتداخل مع غيرها ، ولا يعود إليها بعد أن يجاوزها ، وبحيث تكتمل القصيدة بمجموع أبياتها ، فلا تحتمل الحذف أو تحتاج إلى إضافة ، كما لا تقبل تغيير مواقع الأبيات من السياق العام . هذا المفهوم المتشدد للوحدة العضوية نادرا ما يتحقق في الشعر الغنائي ، إلا أن يكون معتمدا على حكاية تنظم مراحله ، وتساعد على تركيب أفكاره بحكم إطارها المعتمد على التتابع في الزمن أو الحدث أو تحاور الشخصيات ، ولا يفوتنا أن نذكر أن شعر العقاد في دواوينه المتعددة ، لا يمكن إخضاعه كله لمبدأ الوحدة العضوية ، إلا مع كثير من التعسف والتكلف . أما ما فعله مع قصيدة شوقي في رثاء مصطفى كامل ، فإنه نشر القصيدة مرقمة الأبيات ، كما أرادها الشاعر ، ثم قام العقاد ببعثرة أبياتها ، ثم أعاد ترتيبها على النحو الذي يراه محققا لتماسكها المعنوي ، وتدرجها الفكري ، وتسلسلها النفسي . ومهما يكن من أمر فإن هذا مما يجوز فيه الخلاف ، ويخضع فيه الشاعر ، كما يخضع فيه الناقد ، لإيحاءات وتداعيات هي من أشد خصوصياته ، فقد قال شوقي في مطلع مرثيته ، وهذا مجرد مثال :

المشــــــــــرقــــــــان عليــك ينتحبان      قاصيهما في مأتم والــداني

يا خادم الإســــلام أجـــــر مجـــــاهد      في الله من خُلد ومن رضوان

لما نعيت إلى الحجاز مشى الأسى      في الزائرين ، وروع الحرمان

 

أما في هذه الأبيات فتتوزع على نحو يختلف تماما عند العقاد ، ومع احتفاظه بالمطلع وحده فإن الأبيات الثلاثة الأولى تصبح :

المشـــــرقــــان عليــك ينتحبـــــان      قاصيهما في مأتم والداني

وجدانُك الحي المقيم على المدى      ولرب حي مـــيت الوجـدان

فارفع لنفســـك بعد موتك ذكـرها      فالذكر للإنســان عمـر ثان

 

لا نستطيع أن نجزم أن هذا الترتيب الأخير خير من سابقه ، بل إن مزالق الخطأ والاضطراب فيما فعله العقاد يمكن اكتشافها بسهولة ، ومع هذا فإن دعوة العقاد إلى الوحدة العضوية ، وإلى الاهتمام بالترتيب الفني للقصيدة ، وكذلك دعوته إلى تجنب الإحالة والتقليد، قد آتت ثمارها الطيبة ، لدى الشعراء والنقاد .

 

وتبلغ استهانة العقاد بشاعرية شوقي مداها في تناوله لمرثية ثالثة ، هي ما قاله شوقي في رثاء عثمان غالب ، الطبيب ، وعالم النبات ، الشهير في عصره ( وقد عرضنا لشيء من هذا سابقا ) ، ففي هذه القصيدة حاول شوقي أن يحشد أسماء النبات وأنواعه، ليقول في النهاية إنها حزينة على هذا العالِم ، الذي تعلق علمه بها ، وقضى حياته بينها. هذا هو المنطلق الأساسي لتصور شوقي ، وهو منطلق يمكن أن يكون سليما مقبولا ، غير أن ” شوقي ” أسرف في ذلك إسرافا أفسد عليه تصوره المشروع ، وجعل من المرثية صورة توشك أن تثير الضحك ، بدلا من أن تهيج الأحزان :

والزهر في أكمامه      يبكي بدمع الغاديـات

حُبست أقاحي الربا     والعهد فيها مومضات

وشقائق النعمان آ      بت بالخدود مخمشات

يربط العقاد هذا المسلك في الرثاء ، بقول أحد الماجنين في رثاء إحدى القيان :

رحمة العود والكمنجا عليها      وصلاة المزمار والقانون

وتكتمل سخريته اللاذعة باصطناع أبيات على نفس النهج من منطلق أنه طبيب ، أو عالم جيولوجي ، وما يمكن أن يقال في هذا المقام .. إمعانا في الاستهزاء !!

 

هناك قضايا أخرى أثارها العقاد بمناسبة نقده لشعر شوقي ، كالمبادئ العامة التي ينبغي مراعاتها في نظم النشيد القومي ، وعن حدود التقليد للقدماء ، ومزالق التزييف إذا ما أسرف الشاعر في التقليد ، ولهذه القضايا غير هذا المكان ، أما نقد العقاد لشوقي ، وهو ما نُعنى به ، فبرغم صوابه وجديته ، فإنه اتسم بالقسوة المنفرة ، وقد أشار العقاد إلى أنه تلقى بعض الانتقادات على محاولته ، أهمها أنه اختار لشوقي قصائد يسهل النيل منها ، وتجنب قصائده العظيمة ، وأنه أغلظ العصا لشوقي كما يقول ، وقد دافع العقاد عن محاولته بأنه إنما اختار أقرب القصائد إلى الحداثة ولم يكن هذا الزعم صحيحا ، وأنه إنما أغلظ العصا لأنه لا يناقش خطأ مؤسسا على البرهان ، ولكنه يهدم وهماً مطبقا ، ودسائس متراكبة . هذا قول العقاد ، وهو إذ يكشف عن دوافعه التي نتوقف عن وصفها، إنما يعبر عن منزلة شوقي في عصره ، وبين جماهيره . على أننا جنينا من الشاعر ، كما جنينا من الناقد خيرا وفيرا ، رحمهما الله، وأجزل لهما .