في وداع صديق



المقالة

في وداع صديق ..

 

.. ورحل عن دنيانا الفانية : أبو القاسم أحمد رشوان، الرجل، الإنسان، النبيل، الجميل، تاركاً في حنايا أحبابه صوراً رائعةً من الوّد الإنساني، والصفاء الخلقي، والنزاهة، فضلا عن جهده العلمي، والإبداعي، الذي تحتضنه مؤلفاته المتميزة ، بفكره الشجاع ، ورؤيته المتفردة، وقدرته التعبيرية المؤثرة والمثيرة !!

 

في رحيل صديق عزيز .. لم تشب سنوات صداقتنا الطويلة أية شائبة، تمس النزاهة، أو الصدق، أو شجاعة الرأي، سواء زمن العمل في الكويت، حيث كنا معاً، أو زمن الزمالة في جامعة الفيوم ، فقد كان – بتعبير القدماء :”الصديق الموافق”، وهي عبارة تعني : أن هذا الصديق الموافق مثال الوفاء لمطالب الصداقة ، ونبالة المشاعر والمسالك ، وصدق المشورة، وصواب الرأي .

 

في رحيل صديق عزيز .. طالت صحبته، فتعاقبت سنواتها ملونة بأحداث الزمان، ومراحل العمر، ومع هذا ظلت هذه الصحبة على صفائها ونقائها، الذي بدأت به.. تتداعى مأثورات قولية تفرض حضورها قرين حضور ذكراه القريبة، وبدايات لقائنا، مهما تباعدت في السنين ، فيقتحم الذاكرة مطلع مرثية (أمير الشعراء) أحمد شوقي لصنوه ، وزميل حياته (شاعر النيل) حافظ إبراهيم؛ إذ يقول شوقي معبراً عن حزنه لسبق صاحبه إلى جوار ربه :

قد كنت أوثـــر أن تقــــول رثـائي        يا منصف الموتى من الأحياءِ

لكن سبقت .. وكل طــــول سلامةٍ        قدرٌ . وكـــل منيــــةٍ بقضـــاءِ

الحق نادى، فاستجبت ، ولم تزل        بالحــــق تحفـــل عند كل نداءِ 

 

إن هذه الأمنية الصادقة ، في السبق إلى رحاب الله ، والفوز برثاء طيب من إنسان نبيل يعرف معنى الصدق والوفاء ، هو ما يعتمل في نفسي حين تلقيت نبأ رحيل الصديق الكريم : الدكتور أبو القاسم ، فلعلي – تمنيت في نفسي – لو أنني سبقته إلى الرحيل ، فقد كنت – لا أشك في ذلك- سأفوز من قلمه الصافي بعبارات رثاءٍ تليق بنفسه الطيبة ، ومشاعره الكريمة . على أن هذا المطلع الرثائي – وإن كان يصور جانباً من حالتي ، وكثيراً من حالة المرثي الكريم (الدكتور أبو القاسم) – فإنه يتضمن في سياق القصيدة إشارة إلى “حافظ” تليق أيضاً بالأستاذ الأكاديمي أبو القاسم أحمد رشوان ، وبخاصة في هذا البيت الذي يقول :

قلم جرى الحقب الطوال فما جرى       يوماً بفاحشةٍ ولا بهجاءِ

 

ولعل هذا يحمل من آيات الصدق في وصف ما أبدع ، وما أنتج أبو القاسم من مؤلفات علمية، ومن كتابات فنية، تفضي صفحاتها بما كانت تعمر به نفسه من: شجاعة الرأي، وحضور الحجة، والتمسك بالحق – ومع هذا: يترفع عن التجريح، ويعف عن المكايدة، ويعلو بقلمه عن الحقد ، والمزاحمة، فضلا عن المنافسة بمعانيها الشريفة، وغير الشريفة. لقد كان رجلاً صافياً، بشوشاً، نبيلاً، محباً لكل أصدقائه، وكنت منهم، كما كنت سعيداً بأنني أحمل له، كما أنه يحمل لي – الاحترام والمودة والتقدير .

 

لقد مارس الدكتور أبو القاسم مهنة المعلم ، ويا لها من مهنة قاسية، لا يصبر على معاناتها وسلبياتها إلا أولو العزم من الرجال، وقد مارسها في الكويت، على مستوى التعليم العام ، كما مارسها تنظيراً وتأسيساً من خلال العمل بتخطيط المناهج في وزارة التربية (الكويت) لينتقل من هذا الطور إلى التدريس الجامعي، أعقاب حصوله على درجة الدكتوراه (بمرتبة الشرف الأولى) منذ أكثر من أربعين عاماً قضاها في أداء رسالته الجامعية بين طلابه، ورفاقه بكلية دار العلوم – بجامعة الفيوم .

* * *

الدكتور أبو القاسم ، كما يملك عقل وفكر ومنهج الباحث الأكاديمي ، القادر على وضع الأطر، واكتشاف المسارات والظاهرات الفنية والأدبية ، وتقسيمها ، بحيث تتيح للطالب الجامعي أن يدركها في غير مشقة، أو معاظلة، كذلك كان يملك القدرة (الفنية) الذاتية ، الخاصة على رسم الصور الساخرة بعبارات مخترعة، طريفة، وقابلة للتداول، وإثارة الدهشة، وكذلك كان قديراً في تصيد المفارقات الكاشفة عن تناقضات الأفراد والجماعات، وما تمارس من ألاعيب الحواة، وبخاصة في مجالات (جماعات المثقفين) التي لا تكف عن مناقضة نفسها ، ومحاربة مضمون رسالتها ، فيدرك أنه لا يلقي بنفسه في غمارها إلا من يعتنق هذه الألاعيب ذاتها ، وقد برئت نفس أبو القاسم من كل ذلك ، واحتمى ضميره بتكوينه الفطري النبيل والجميل ، فظل أستاذاً يتمتع بثقة طلابه واحترامهم لعلمه ، وشخصه، وصدقه ، ودقته ، ووثاقة ما يقدم إليهم من علم .

* * *

أذكر من هذه الصور الطريفة التي ابتدعها خيال أبو القاسم ن بتلقائية وبداهة مدهشة ؛ أنه في أحد لقاءاتنا – زمن الكويت، أي في سبعينيات القرن الماضي – أن تجمعنا – نحن المصريين – أعقاب صلاة الجمعة في مسجد العثمان بشارع النقرة ، وكما هي العادة : رحنا نتشاكى من أعباء العمل ، وما إلى ذلك من متاعب مهنة التدريس ، وفي خلال هذا السياق ، أخذنا نتبارى في تغذية الحلم بالعودة إلى مصر ، حين تتاح الفرصة ، ففاجأنا أبو القاسم ، بأن قال بلهجة ابن البلد الصعيدي ، الذي لا يعرف غير الصراحة ، والمباشرة في التعبير عن نفسه : أنا ح أفضل هنا لغاية ما الراجل اللي في البير بتاع النفط يعبي آخر جردل ويقول : النفط خلص يا جماعة ، حينئذ أجمع حاجاتي وأعود إلى مصر !!

بالطبع استجبنا بالضحك لطرافة الصورة ، وندرتها ، وقدرتها الرائعة على تجسيد المشهد الزمني ، وما يقترن به من حركة ، وكان هناك شخص واحد لم يشاركنا الضحك: هو أبو القاسم نفسه ، صانع هذه الصورة الطريفة . على أنه – ويا للعجب – كان الأسبق ( في مجموعتنا) إلى ترك العمل في الكويت ، والعودة إلى الوطن بمجرد حصوله على درجة الدكتوراه ، مقدراً مكانة وقيمة العمل في الجامعة ، وقد كان جديراً به ، وكفؤاً له : خلقاً ، وعلماً ، وصحبةً ، وسلوكاً ، قولا وفعلاً ..

 رحمه الله رحمةً واسعة ..

* * *

وتتداعى مأثورات التراث الديني ، فتهيمن على الذاكرة – في مشهد رحيله – فتحوك في صدري تلك الآية القرآنية التي تقول  :

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) (

من ثم يبدو لي الصديق الكريم الدكتور أبو القاسم ، بمثابة تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت، وتؤتي أكلها الطيب كل حين بإذن ربها ، فقد خلف في حياة أسرته ووطنه من الأبناء والبنات ، من يصدق في وصفهم بأنهم تلك الفروع الطيبة المثمرة – بإذن الله .  

كما تداعت إلى ذاكرتي صورة حديث شريف، وصيغته – كما احفظه من زمن طويل ، نقلا عن كتاب ” الشمائل المحمدية “– وكما يوجد عند السيوطي تقول :       ” طوبى لمن بات حاجاً وأصبح غازياً : رجل مستور، ذو عيال ، متعفف، قانع باليسير من الدنيا ، يدخل عليهم ضاحكاً ، ويخرج عنهم ضاحكاً ، فو الذي نفسي بيده إنهم هم الحاجون الغازون في سبيل الله عز وجل ” .

هذا الحديث – الذي تنتهي روايته إلى أبي هريرة – يكاد يصف أهم ملامح مسيرة الدكتور أبو القاسم الحياتية : فقد كان بعيداً عن المزاحمة ، وملوثات المنافسة ، والتطلع إلى الآخرين ، وكان متعففاً ، قانعاً بالحلال ، يدخل على أصدقائه مستبشراً ، وكريماً ، دمث الخلق، جميل الحضور، وجميل المنصرف ، كما كان طيب الرحيل .. وإن عز الرحيل .

 

رحمه الله ، وأثابه بكل ما قدم بين يديه من عمل طيب .. آمين