مدينة الله : الثأر .. صلاة زكية



المقالة

مدينة الله

الثــأر .. صلاة زكيــة

بين ” التائهون ” و ” صلاة ورفض ” تتحرك قصائد محمود حسن إسماعيل التي تتجه قصدا إلى القدس ، وفي كل قصيدة من قصائده الأربع تتصاعد حرارة الموقف حتى تغادر أجواء الضراعة ( قومي إلى الصلاة ) لتقتحم حقيقة العمل الكارثي وتفتش في جذوره التاريخية وبلواه الراهنة ، فتتوعد في ( القدس تتكلم ) التي تمتد في جسد القصيدة التالية ” الأذان الذبيح ” – وهي مهداة ” إلى أذان المسجد الأقصى وهو يهدر من وراء السكون والأغلال ” ، فالقصيدة – بالتهيؤ الوجداني داخلة في القدس تتكلم ، بما كشفت من شناعات تاريخ اليهود ، وتوعدت واثقة بأن ثأر الله لا يتخلف ، والأذان الذبيح بنسقها الإيقاعي داخلة فيما جاء بعدها من قصائد يغلب عليها طابع التجريب الموسيقي ، وهذا من أنبل عطاءات هذا الشاعر العظيم الذي بهر زمانه منذ أول دواوينه ( أغاني الكوخ = يناير 1935 ) وقد تبنّى صوت الكادحين المعذبين في الأرض قبل أن يفطن إليه غيره ، ثم – حين جاء زمان تراكمت عليه آثام العصور ، احتمى بالإيمان الذي يحمله إلى اليقين الديني المؤمل بالثأر هادرا كالأتيّ ، يكتسح كل ما يعترضه . في الأذان الذبيح يعجب لغفلة أنواع من البشر وإغلاق عقولهم وضمائرهم أمام تجارب ماضيهم الذي يحتمون به ويسوغون أشنع ضلالاتهم :

هنا الله !! كيف استباحوا حماهُ ؟

وجاروا على حـرم القبلـتين ..

وكيف ، وقد حــاربوه جهارا

وعاقبهــم بأسه مـــرتين !

يعودون !! كل الخطايا خطـاهم

وكل الخنا مترع في الـيدين !!

ومهمـا استبدوا سيأتي الصباحُ

وتنقـض ثالثـة الكــرتين …

  

فهذا نسق شعري للآية من سورة الإسراء : ( وقضينا إلي بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين …) الآية ، والآيات بعدها . وفي ختام هذه القصيدة ينصّ – لمرة واحدة – على أن ثأر الأقصى معلق بالعروبة : ستجتاحهم كرّة للسماء / بها النصر دوّى بتكبيرتين / على حومة من جبين العروبة / تعلي أذانك للفرقدين !!

في رصد المشهد الكلي للمنتج الشعري لمحمود حسن إسماعيل الخاص بالقدس ، أشرنا قبل إلى صدق الانفعال وقدرة الملاءمة ما بين النداء : قومي إلى الصلاة ، وقصيدة القناع : القدس تتكلم ، لتبدو في متوالية القصائد ثلاثة أمور ، أولها ما نحن بصدده من رصد تطوير الانفعال بتغيّر المشهد والاقتراب من وقائع الحادث المروّع ( احتلال الصهيونية للمدينة المقدسة ) وثانيها ما يترتب على التغير والاقتراب من انتقاء مكونات القصيدة في مشهدها الكلي ، وصورها الجزئية ، وكأننا نقف مع الشاعر خلف الكاميرا التي ترصد من بعيد ، ثم تتقدم ، وهذا يتضح في استخدام الشاعر لحواسه ووعيه بقدرة الاستطاعة الحركية.إن أداة النداء ( يا قدس ) التي تتصدر قصيدة ( قومي إلى الصلاة ) تدل على البُعد ، وهذا البعد قيمي يستند إلى مقام الضراعة والمناجاة ، ومكاني- من وجه آخر – إذ أدرك الشاعر من حجم الفاجعة كيف دخلت القدس في المجهول وأصبحت جد بعيدة . غير أنه لا يلبث أن يلتحم بواقع معرفي يدرك عبره أن ما يجري في القدس ولها ، ليس أكثر من مرحلة أو حلقة ، تجتازها لتعود إلي أصلها . في أعقاب هذا التواصل المعرفي يتم الاقتراب من المدينة المقدسة ، وفي مشهدها الكلّي تعلو مئذنة الأقصى ، حيث يصدح الأذان متحديا يهدر من وراء السكون والأغلال ، ويمضي موكب القصائد – أو كاميرا تعاقب المشاهد – ليقف حيال ” المسجد الصابر ” ، وهنا لا تستطيع قوة في الأرض أن تحول بين المؤمن والصلاة في مجمع عقيدته ، من ثم تكون قصيدة ” وجئت أصلي ” ختام رحلة الخلاص ، خلاص الأقصى من القبضة الدنسة ، وخلاص النفس المؤمنة من عذاب البعد والشعور بالتقصير .

في ” المسجد الصابر ” يزدوج خط العقيدة بخط التاريخ ، ولعل كثرة من المسلمين لا تدرك شيئا عن تاريخ الأقصى ( البناء ) اكتفاء بالإسراء من المكان ، ولقد تفكر الشاعر في معنى ومغزى هذه المفارقة ، ولها دواعيها في تكوينه الثقافي ( إذ تخرج محمود حسن إسماعيل في كلية دار العلوم – كانت في زمنه تدعى : مدرسة دار العلوم العليا ، ولها عناية خاصة بالتراث العربي الإسلامي ) ، كما كان لها دافع حاضر ، ماثل في ذكرى ليلة الإسراء التي استجدت – لأول مــرة – والأقصــى في أسر اليهــود ( 1388هـ – 1968 م ) من ثم التقى الرافدان في تشكيل هذا المطلع لقصيدة : المسجد الصابر :

 

لست في عالم القداسات مسجد

إنما أنت هـالة من محمـد !!

فيك راح النبــيّ لله يسجـد

قبل أن يرفع البناء الممــرد

والنبيون خلفـه في تهجــد

زمرا..صاحبته من غير موعد

 

لقد هيمنت العبارة التقريرية على مطلع رأى أن يكون إثارة فكرية ، بديلا عن الانفعال والتصوير ، ولكن ” المشكلة ” أن هذه التقريرية استمرت ، وتمادت حتى اكتسبت مستوى هتاف الجماهير والشعارات المتداولة . لا يملك النقد أن ” يستضعف ” هذا النهج بدعوى ” الجمالية ” ، فهذه الجمالية ليست من صنع النقاد ، ولا هي موجهة إليهم ، ومن حق الشاعر أن يكون لشعره “طبقات” ، مثل ” موجات الإرسال ” في أجهزة البث ، اعترافا بأحقية وقدرات أجهزة الاستقبال . ومهما يكن من أمر ، فقد تجاوز الصورة الخارجية للمسجد الصابر فكانت القصيدة الأخيرة : ” وجئت أصلي ” – مبعثها المباشر ، أو مثير الانفعال بها حادث حريق الأقصى ، وفي عنوان القصيدة مجال للتأمل ، فهذه الواو العاطفة تربطها بسياق القصائد السابقة ، كما تقتحم بها حادث الحريق نفسه ، الذي يتحداه الشاعر بموقف السكينة والثبات ، الذي تستلزمه الصلاة :

 وجــئت أصلــي

.. ورغم انـدلاع الدجى ، كالبــراكين حولي ،

ورغم الأعاصير ترمي خطاها بسفحي وجرحي

… وساحات هولي ،

أتيـت أصلــي !!

هنا ، في هذه القصيدة يلتقي التاريخ والشعر ، لا غرابة ، كما يلتقي الإيمان بالغضب الحر في كل نفس أبيّة :

وبالثأر .. وهو الصلاة الزكية

العنصر المؤجل في جملة هذه القصائد يتصل بالبحر الشعري والإيقاع ، وجدير بالتقدير أن هذا الشاعر الكبير لم يركن لشكل جاهز يلقى فيه حمولته الباهظة من المشاعر والصور ، ظل يجرّب ، ويعاود في اختيار التفاعيل ، وأنساق القوافي ، فكانت قصيدتاه الأوليان على تفعيلة الرجز ، وجاءت ” الأذان الذبيح ” و ” جئت أصلي ” على تفعيلة المتقارب ( فعولن ) وانفردت ” المسجد الصابر ” ببحر الخفيف ( فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ) ، أما أنساق القوافي فتحتاج إلى بصر بامتداد القصيدة – كل قصيدة – في جملتها وتركيبها !!