المقالة
مدينة الله
القدس .. امرأة من حليب البلابل
عبر هذه المحاولة للتعرّف على مكان القدس في القصيدة العربية ، وتجلياتها ، غلب على الإدراك ظن بوجود فارق قد لا يتخلف بين درجة الانفراد بالإحساس بالقـدس ( المكان ) لدى الشاعر من أبناء فلسطين ( سواء كان يعيش في فلسطين أو يعيش خارجها ، والشاعر من غير أبناء فلسطين ، ويبدو أن هذا الفارق مترتب على درجة الانغمار في القضية والإحساس بجسدها وهو الأرض والناس والتاريخ ، فالشاعر من غير أبناء فلسطين حين تستثيره أحداثها أو ما يتهدد مصيرها فإن مخيلته سرعان ما تستدعي من الذاكرة مدينة القدس ، التي تصبح رمزا لكل فلسطين ، وبخاصة أنها عاصمة البلاد ، والأرض المباركة .. الخ ، فمن حقها أن تحظى بهذا الحضور المتوهج ، بل إن بعض الشعراء يحقق في قصيدته هذه الرمزية في المسجد الأقصى ، نائبا عن جملة المدينة المقدسة ، التي تنوب بدورها عن جملة أرض فلسطين ، وهنا يختلف الشاعر الفلسطيني الذي تشرب وجدانه عشق المكان حتى وإن لم يكن رآه . ليس معنى هذه التفرقة ( النسبية ) أن قصائد القدس قليلة في التراث الشعري الفلسطيني ، فهذا ما لا يمكن توقعه أو قبوله ، ولكن معناه أو ثمرته أن مدنا أخرى غير قليلة تأخذ أماكنها في القصيدة حتى وإن تكن ” القدس ” عنوانا لها أو استهلالا ، وفي القصيدة التي نعنى بها : ” سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا ” تتعدد أسماء الأماكن ( المدن ) : أريحا ، ويافا ، والناصرة ، والقدس ، وهي المدينة الوحيدة التي تكرر اسمها وتحددت معالم رمزيتها ، إذ تأتي مقترنة بما يؤكد انفرادية المكان بالوصف : ثلاث مرات :
هنا القدس / يا امرأة من حليب البلابل ( مرتين )
و : هنا القدس / كيف تعانق حريتي – في الأغاني – عبوديتي ؟!
وثلاث مرات أخرى بأسلوب مختلف ( القصر البلاغي : النفي والاستثناء ) يؤكد هذه الانفرادية وإن تكن في الاتجاه المضاد :
وسرحان لا يقرأ الصحف العربية .. / لا يعرف المهرجانات والتوصيات ، / فكيف إذن / جاءه الحزن .. كيف تقيّأ ؟
وما القدس والمدن الضائعه
سوى ناقة تمتطيها البداوة / إلي السلطة الجائعه .
وما القدس والمدن الضائعه
سوى منبر للخطابه / ومستودع للكآبه .
وما القدس إلاّ زجاجة خمر .. وصندوق تبغ …
ولكنها وطني .
من الصعب أن تعزلوا / عصير الفواكه عن كريات دمي ..
هذا مقطع / مونولوج يتلمس دواعي الثورة في وجدان سرحان سرحان ، تلك الثورة التي دفعته إلى إطلاق الرصاص على رجل يزهو أمام العالم ، بإنكار سرحان وحقه في وطنه ، ويرمق خصم سرحان بعين معجبة مبهورة لا تبالي بطوفان التعاسة الذي يتهدد كيانه . وقد حمل هذا المقطع الذي برزت فيه مدينة القدس بمجمل الدوافع الحاضرة والقديمة التي غصت بها نفس سرحان فانطلقت رصاصاته في اتجاه هو الأقرب مكانا ، والأشد خطرا على المستقبل ، ولكنه لم يترفق في إدانة الموقف العربي العام ، والفلسطيني أيضا من القضية .
إن الشاعر الذي يعرض لفلسطين ، أو للقدس – رمزا لها – لابد أن يكون على معرفة مناسبة بتاريخ فلسطين ، وبأهم معارك التاريخ التي جرت على أرضها ، وفي دواوين محمود درويش ما يؤكد إلمامه الجيد بهذا الجانب ، وفي هذه القصيدة يذكر حطين ، ولكنها – في سياق التحول الذي يمسخ شخصية فلسطين العربية أصبحت حطين مزرعة للحشيش ، كما أصبح الثوار السابقون سعاة بريد !! وبصفة عامة فإن الطابع المكاني غالب علي معجم هذه القصيدة ، وقد أشرنا إلي أسماء المدن ، وإذ تفوق حضور ” القدس ” بطاقتها الرمزية ، فإن لها هذا الحق أيضا بأنها المدينة التي شهدت ميلاد سرحان سرحان ، ومسقط الرأس عزيز مقدس ، حتى وإن بدا غامضا في الذاكرة ، وقد جاءت أوصاف القدس / المكان مؤكدة لبهائه ، هذا البهاء الذي يجاوز قدره التخيل علي تشكيل الصور ، وقد استعار لها صورة امرأة من حليب البلابل !! ونحن في استخدامنا السائر للقدرة على صنع المحال لا نزال نقول : لبن العصفور !!وفضل القدس على كافة مدن العالم فضل البلابل على العصافير ، تشاركها الطيران ، وتنفرد ببهجة الألوان ، وسحر الأصوات . لقد أحزن سرحان أن مدينته التي أغلق عليها ذكريات طفولته مهددة بالإفناء ، بالتحول إلى شيء آخر أصبح فيه سرحان غريبا ، وهذا التحول في شخصيه مدينة القدس يدخل في سياق سلسلة من التحولات التي لا تقف عند حدّ المكان ، فها هي ذي تطال البشر :
ونعرف ، كنا شعوبا ، وصرنا حجاره
ونعرف ، كنت بلادا ، وصرت دخان
… بلاد تغير سكانها ، والنجوم حصى …
شوارع أخرى اختفت من مدينته
… مدينته لا تنام ، وأسماؤها لا تدوم ، بيوت تغير سكانها ، والنجوم حصى .
هكذا تتبدد الهوية الفلسطينية من خلال : كنا ، وصرنا ، وتغيير الأسماء واختفاء الشوارع ، وقد ظهر هذا في جملة المكان ، ولكنه في القدس أشد ظهورا ، وإذا كانت القدس – مسقط رأس سرحان – يسعفها سمو الرمز واكتناز الطاقة الروحية ، ففي القصيدة مكان آخر ، يتردد بصيغتين مختلفتين لا يدرك مغزاهما بمجرد قراءة القصيدة ، هما : مرج ابن عامر ، والجليل ، وهما معا في شمالي فلسطين ، أخصب جهاتها ، قرب عكا . وهذا الموقع فيه كانت قرية البروة ، وهي من قرى الجليل قريبة من عكا ، وهي مسقط رأس محمود درويش ، وقد أزيلت أيضا كما تغير السكان و استحالت النجوم حصى !! هذا هو الاختفاء الثاني ( المعادل ) للمكان ، فالقدس ميلاد سرحان ، والجليل ميلاد محمود درويش ، وقد ارتبطت خصوبة المكان بخصوبة الشعور وفاعلية الثورة : ها هم العرب يبالغون ، يزيفون ، يدعون :
يقولون للطين كن جبلا .. فيكون / يقولون للترعة انتفخي أنهراً فتكون
… تمزق غيما وترسله في اتجاه الرياح . وماذا ؟
هنالك غيم شديد شديد الخصوبة .. لابد من تربة صالحة
أتذهب صيحاتنا عبثا ؟
وليست خيامك ورد الرياح / وليست مظلات شاطيء .
تدجج بأعمدة الخيمة . اخترقي يا هويتنا – صاح لاجئ /
وسرحان يشرب قهوته . للجليل مزايا كثيرة ،
ويحلم ، يحلم ، يحلم .. آه – الجليل !
هذا هو وطن درويش وجرح قلبه وحلم طفولته ونبوءة عودته ، وقد غرسها في مرج ابن عامر ، الذي ذكر في مفتتح القصيدة ، وفي ختامها ، مع فارق هائل :
فذاكرته في البداية منقار طائر تأكل حبة قمح بمرج ابن عامر ، وهذا المنقار ذاته هو الذي – في آخر سطر من القصيدة : يزرع قطرة دم بمرج ابن عامر !!