مدينة الله : المدينة الاستثناء



المقالة

مدينة الله

المدينة الاستثناء

هذه صورة شعبية ، ذات طابع أسطوري ، قوامها ذكر فضائل بيت المقــدس ، ( المدينة ) التي تتداخل في هذا المستوى الشعبي من التأليف بالمسجد الأقصى حينا ، وبهيكل سليمان حينا آخر ، وكأنما أراد مسطّر هذا النصّ أن يعبّر عن الجوهر التاريخي لهذه المدينة المقدسة عند أهل الأديان الثلاثة ، فيذكر من فضائلها عند كل فريق ما يشبع إيمانه ويؤكد أفضلية معتقده ، دون أن يمس عقيدة الآخر – أو الآخرين – بما ينقص من جلال القدس كما يتصورها ، ويؤكد رفعة موقعها للبشرية كلها ، إذ ربط وجودها ببدايات الوجود البشري السابق علي التاريخ .

المخطوط الموجز ( 40 صفحة ) بعنوان ” تاريخ بيت المقدس ” ، وهو منسوب لابن الجوزي ( أبو الفرج : عبد الرحمن بن علي … البغدادي : 508 – 597 هـ) ، أشار الزركلي إلى مخطوط بعنوان ” فضائل القدس ” ، وفي النسخة المطبوعة أخطاء شنيعة ، وكلام مرسل غاب عنه التوثيق والنقد ، من ثم نتقبله في إطار ما ذكرنا ، وهو أنه يقدم صورة شعبية أسطورية للمدينة المقدسة ، يمتزج فيها النص الديني المقدس ، بالعجائبي المصنوع ، وبين هذا وذاك تتسلل ” إسرائيليات ” مفضوحة الهوى والهدف ، لم ينتبه إليها من منح نفسه صفة الدراس المحقق !! ، من ثم نعرض لمادة هذا الكتيّب ليفيد من غرائبها ونوادر صورها وأفكارها المبدعون من الشعراء والحكائين وصنّاع الملاحم الشعبية . إن ابن الجوزي لم يكن ليهتمّ بتوثيق مصادره فضلا عن نقدها ، ولم يشعر بغرابة الخلط بين مسميات الأماكن وحدودها . إنه يبدأ تاريخ مدينة بيت المقدس ببناء المسجد الأقصى ، ومن الطبيعي – في ضوء النص القرآني – أن يأتي بناء المسجد الأقصى لاحقا لبناء البيت الحرام ( في مكة ) ، بينهما أربعون سنة ، أسسه سام بن نوح ، وهذا يعني أنه أقدم وجودا من داود وسليمان ، وأنه أسبق في موقعه من الهيكل ، أما كرامات سليمان فإنها مسجلة في القرآن ، وهي خاصة به ، أما فضائل بيت المقدس فإنها مرتبطة بالمكان ، من ثم هي حق لكل من انتمى له : ولادة ، أو معيشة ، أو وفاة ، أو صلاة . وكما أشرت قبل يتداخل في هذه المخطوطة بيت المقدس بهيكل سليمان ، بالمسجد الأقصى ، وكأنهم الشيء نفسه ، فقد سأل سليمان ربه أن يغفر لكل من زار معبده ويحط عنه ذنوبه ، وكذلك تحتسب الصلاة في المسجد الأقصى بعشرين ألف صلاة ، ومن صلى في بيت المقدس ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، ومن صلى أربع ركعات مر علي الصراط كالبرق الخاطف وأعطي أماناً من الفزع الأكبر يوم القيامة ، ومن صلى ست ركعات أعطي مائة دعوة مستجابة أدناها براءة من النار ووجبت له الجنة ، فإذا صلى ثماني ركعات كان رفيق الخليل إبراهيم . ويروى عن عثمان بن عطاء الخرساني أن بيت المقدس ( !! ) بني بأحجار من الذهب والفضة ، ويروي حديثا عن معاذ : يقول الله تعالى لبيت المقدس : أنت جنتي وقدسي وصفوتي من بلادي ، من سكنك فبرحمة منيّ ، ومن خرج منك فسخط منيّ عليه . ويروي عن وهب : أهل بيت المقدس جيران الله تعالى ، وحق علي الله تعالى ألاّ يعذب جيرانه . وعن مقاتل : كل ليلة ينزل سبعون ألف ملك من السماء إلى الأرض إلى مسجد بيت المقدس ، يهللون الله ويسبحونه ويقدسونه .. لا يعودون إلي يوم القيامة . وعن كعب أن الظل الذي ينزل على بيت المقدس شفاء من كل داء لأنه من جنان الجنة …

وتتصاعد فضائل بيت المقدس مقترنة بمعجزات من عاش فيها أو عبر بها من الأنبياء ، بدءاً من إبراهيم الخليل ، وزوجه ، وعقبه ، وإذ يغلب يأجوج ومأجوج علي الأرض كلها ، باستثناء مكة والمدينة وبيت المقدس ، وتضاف كرامة لبيت المقدس بأن الله تعالى يهلك يأجوج ومأجوج بها ( مع أنهما لن يتغلبا عليها ) ، ومع أن آدم مات بأرض الهند فإنه أوصى بأن يدفن في بيت المقدس ، ولم يذكر ابن الجوزي هل حقق بنو آدم وصية جدهم الأعلى أم أذهلهم النسيان ؟! ومن المهم أن نعرف أن عيسى عليه السلام سيقتل الدجال بأرض بيت المقدس ، وأن الحوت الذي يحمل الأرض على ظهره : رأسه في مطلع الشمس ، وذنبه في المغرب ، ووسطه تحت بيت المقدس . وفي هذا السياق ( الفولكلوري ) يذكر اسم أبي هريرة ، يدلي بمعلومات مترامية عن أبي الأنبيـاء ( إبراهيم ) وكيف اشترى مقبرة من ملك زمانه بأربعمائة درهم ( رفض قبولها بالمجان ) وأنه دفن فيها سارة ، ثم مات إبراهيم ، ومن بعده إسحاق فيعقوب فزوجته ربعة ولبقاء ، أخذوا مواقع متقاربة في المغارة ذات الدراهم الأربعمائة ، وأطبق بابها عليهم إلي أن جاء الروم ففتحوا باباً ، ودخلوا ، وبنو في المغارة كنيسة !! .

طبيعي أن يذكر اسم وهب بن منبّه وكعب الأحبار في هذا الموضوع ، وأن يصطنعا من الأخبار ما يمكن قبوله من المسلمين ، وفيه إشادة بتاريخ اليهود في المدينة المقدسة ، فعن وهب قوله : إذا كان آخر الزمان حيل بين الناس (المسلمين) وبين الحج ، فمن لم يصل إلي الحج فعليه بقبر إبراهيم .. فإن زيارته تعدل حجة !! فهنا تبدو المغارة الإسرائيلية بديلا للحج إلي مكة في آخر الزمان !! أما كعب فيقول : من زار بيت المقدس وإبراهيم عليه السلام ( موثقا أن إبراهيم دفن في تلك المغارة ) وصلى فيه خمس ركعات ( وهذا عدد ليس له ذكر في صلوات المسلمين ) ثم سأل الله شيئا إلاّ أعطاه ، ومن زار قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسارة وربعة ولبقة أعطي بتلك الزيارة الكرامة الدائمة ، والرزق الدائم الواسع .. الخ .