المقالة
مدينة الله
المدينة تستوعب القضية
في حوار قديم أخذ الشاعر محمود درويش على نقاد الشعر الفلسطيني مراوغتهم ( ترفقهم ) في الاهتمام بالجوانب الفنية الخالصة ، إذ يعدونه شعر خطابة ، أو شعر قضية ، كما أخذ على هؤلاء النقاد أن كل شعر غزلي يحمل اسم امرأة أو يخاطب الأنثى إنما يرمز بها إلى الوطن ( فلسطين ) والشاعر يرى في هذا قدرا من انتقاص الشعرية ( وربما انتقاص حس الذكورة أيضا ) !! إذا أخذنا هذين الملمحين في الاعتبار سنجد أن ظن الشعراء لم يذهب بعيدا ، كما أن ملاحظة الشاعر صحيحة كذلك . وليس فيما نقول محاولة لإرضاء طرفين ، وإنما احتكام لنصوص هذا الشعر ، وبخاصة حين يكون الشاعر فياض القريحة امتدت تجاربه عدة عقود ، ولا مندوحة للنقد من استخلاص ” رؤية ” رسمت خطوطها عبر امتداد القصائد في مراحل العمر ودرجات التشابك مع القضية ، وإنما يحدث التفاوت في حالة اتساع التنوع الموضوعي ، و قدرة الموهبة على الإفضاء بالشاغل المستقر في أعماق الشعور ، وهو يتجلى في صور وإيقاعات استدعت موروثا متاحا استوعب في سياقه حالات أخرى ، فإذا توفر للشاعر الفلسطيني تكوين مرجعي خاص به ، يمتاح منه دون أن يجد قدميه تستدرجانه إلى السير في الطرق ( التعبيرية ) المألوفة ، فهذا الرضا بالمألوف القريب هو الذي يؤدي إلى جاهزية القول بالخطابة ، والمسارعة إلى تأويل الرمز .
يفتتح محمود درويش ديوانه ” آخر الليل ” ( 1967 ) بقصيدة مطولة بعنوان ” تحت الشبابيك العتيقة ” – وهي مصدرة بإهداء يقول : ” إلى مدينة القدس وأخواتها ” ، والمطولة من سبع قصائد متوسطة أو قصيرة ، استقل كل منها بعنوانه ، المختلف عن العنوان المشترك ( 1- الجرح القديم 2- أغنية حب على الصليب 3- خارج من الأسطورة 4- اعتذار 5- المستحيل 6- الورد والقاموس 7- وعود من العاصفة ) مع هذا ستظل الشبابيك العتيقة في المـدينة ( العتيقة ) مصرة على جهلها ، أو تجاهلها لصاحبها القديم ، ولكن الشاعر الذي أثقله الأسى يقرر الرفض وتحدى غربته في وطنه ، فيتمرد على موروثه اللغوي والفني ( النضالي ) ويصمد في موقعه متحديا ، ينتظر ساعة النصر التي تلقى وعدها من الثوار .
تثير هذه القصيدة المركبة أسئلة فنية ، وبخاصة حين نتلقاها تلقيا كليا ، كما نستمع إلى السيمفونية المقسمة إلى مطلع وحركات وختام ، لكل منها موقعه وتأثيره في مكانه من السياق ، ودوره في بناء الانطباع ( النهائي ) الموحد في النهاية . فكيف تواصل كل جزء مع سابقه ولاحقه في التصاعد بالشعور ، وتأكيد التواصل عبر امتداد الصور ، وثبات أو تنويع الإيقاع بدرجة تشعر بالاتصال ، ولا تؤدي إلى نقلة تشعر بالانفصال ؟ تبدأ ” الجرح القديم ” بمشهد ساكن لإنسان حائر لا يعرف ماذا يصنع تجاه ما يواجه :
واقف تحت الشبابيك ، / على الشارع واقف . / درجات السلم المهجور لا تعرف خطوي / لا ولا الشباك عارف . / من يد النخلة اصطاد سحابه / عندما تسقط في حلقي ذبابه / وعلى أنقاض إنسانيتي / تعبر الشمس وأقدام العواصف .
إن ضمير المتكلم المتكرر في هذا المقطع ثلاث مرات يفرض ما يلائمه ليكتمل بناء الجملة ، بتقدير ( أنا ) واقف ومع ذكر ( لا تعرف ) ندرك أنه يصف مكانا كان يملكه ، وألفه ، ولهذا لم يعرفه ( بالراء المشددة ) على عادة تعامل الشخص مع الأماكن التي تعودها ، إذ يفهم منه أنه يتحدث عما يخصه فالبيت = بيته ، والشارع = الشارع الذي فيه هذا البيت ، وكذلك الشبابيك .. الخ ، وهذا السلم المهجور هو سلم بيته كذلك ، وكما هو البيت العربي عادة ، تتوسط ســاحته نخلة ( حقيقة أو رمزا ) وهى لا تزال في مكانها ، وهنا يرصد المنظور الرأسي إذ تنفرج النخلة مثل أصابع اليد ، وفي المدى سحابة ، ولكن بدلا من أن تصطاد عينه السحابه من بين جريد النخلة ، تسقط ذبابة في حلقه !! ولمحمود درويش ولع بذكر مفردات على قدر من الابتذال ( مثل الأسبرين – وطني حبل غسيل – الفيتامين C – مليون كيلو واط من الكهرباء ) وهذا التقزز الذي تثيره مفارقة ما بين السحابة بكل ما تمثل من السمو والنقاء ، والذبابة في الحلق بكل ما تخلفه من القرف هو فرق ما بين حلم الفلسطيني وواقعه ، وهذا الحلم بالسحابة ينتمي إلى الماضي ، وهو ما يتمــرد عليـه الشـاعر ويـرفض تنميقه ويصفه بالتصنع والعجز معا . إن هذا ” التأسيس ” في القصيدة الأولى يفترض أنه ينداح بمعطياته الأساسية في بقية القصائد السبع وإلاّ فقد مسوغ الترابط ، وهذا الترابط يتم عبر الإيقاع ، والصور ، وتنمية الانفعال ، فإذا تلمسنا هذه الأوجه وجدنا بعضا منها متحققا ، وبعض آخر قد تخلف . فبالنسبة للإيقاع جاءت القصائد جميعها على نسق قصيدة التفعيلة ، وقد راوح الشاعر بين التفعيلة : ( فاعلاتن ) في القصائد : الأولى ، والثالثة ، والسادسة ، والسابعة ، والتفعيلة ( فعولن ) في القصائد : الثانية ، والرابعة ، والخامسة . إن تكرار فاعلاتن – الأساسية في بحر الرمل تناسب حالة العاطفة الحزينة والطابع التأملي للمشهد الماثل ، ويصفها عبدالله الطيب بأنها تنبو عن الصلابة والجد ، ولعل في السياق ، ومآل العاطفة في المتتابعة ما يرجح صواب هذا الرأي . ولكن : هل كان الانتقال من تفعيلة الرمل إلى تفعيلة المتقارب مطلوبا ، أو يعد بمثابة ” إضافة ” لغناء الحزن والتوجع ؟ لعل شيئا من هذا قد حدث اتساقا مع إضفاء نوع من روح الإقبال على الحياة ، الممهد للتحرر من ضغوط الحزن والفقد إلى تقبل الثورة والإيمان بالمستقبل ، وهذه القطعة ( الخامسة ) تصلح برهانا على ذلك :
أموت اشتياقا / أموت احتراقا / وشنقا أموت / وذبحا أموت / ولكنني لا أقول : / مضى حبنا وانقضى / حبنا لا يموت .
إن مفردة ” الموت ” هي المهيمنة على السياق ، ولكن الإسراف في تلـوينها ( تقليبها ) للوصول إلى نتيجة المفارقة يؤدي بالمتلقي إلى تلك الحالة التي أشار إليها درويش مستاء وهو اعتبار شعر الفلسطينيين خطبا وشعر قضية ، ومن ثم التسامح معه !! فإذا أخذنا بتوصيته ، ولم نتسامح معه فإننا لن نجد مسوغا يستحق أن يغادر تفعيلة الرمل إلى تفعيلة المتقارب ، حتى مع التسليم بالفارق الإيقاعي وأثره النفسي ، وبخاصة أن الحالات ( النفسية ) لم تكن محسومة بين القطعة والتي تليها ، في مجموعة يفترض أن نتلقاها متصلة ( قصيدة واحدة ) ، وهذا الاتصال مؤكد عضويا بين القصـيدتين الســادسة ، والســابعة ، إذ جاءتا على تفعيلة الرمل ( فاعلاتن ) ، وبدأت كلتاهما بذات العبارة : ( وليكن .. لابد لي ) وتأكد التصاعد الانفعالي في النقلة بينهما ، وهذا واضح في المقابلة بين مطلع : الورد والقاموس :
وليكن .. / لابد لي .. / لابد للشاعر من نخب جديد /
وأناشيد جديدة / إنني أحمل مفتاح الأساطير وآثار العبيد …
ومطلع : وعود من العاصفة ، ( وهو الذروة في تصاعد الانفعال ) :
وليكن / لابد لي أن أرفض الموت / وأن أحرق دمع الأغنيات الراعفه / وأعري شجر الزيتون من كل الغصون الزائفه / فإذا كنت أغني للفرح /
خلف أجفان العيون الخائفه / فلأن العاصفه / وعدتني بنبيذ ، وبأنخاب جديدة / وبأقواس قزح .
إن المسافة بين الوقوف الحزين ، أمام البيت القديم المهجور ، الذي لم يتعرف على خطا أصحابه ، وبين التباهي بجرح المدينة ، واقتحام العاصفة الواعدة بأنخاب النصر ، تحت قوس قزح ، شكلت قصيدة ( جدارية ) تجريبية في مرحلة شعرية متقدمة ، وقفت في منتصف المسافة بين الرمز والمباشرة ، وبين مدينة القدس لذاتها ، والقدس التي استوعبت القضية . أما المدن الأخرى ( أخواتها ) فهذا حديث آخر .