المقالة
مدينة الله
باب الفتوح
عنوان مسرحية محمود دياب ( 1932 – 1983 ) التي تقتنص حدثا تاريخيا مؤثرا تسقطه على الحاضر ، ويتوسع في عرض القضية لتجاوز العصرين معا : التاريخي والحاضر ، لتكشف عن مواطن الخذلان في بنية المجتمع العربي الذي ينظر إليه نظرة كلية ، متسامية على القطر والإقليم ، من ثم يبدو الحلّ في المسرحية دعوة إلى التغيير الشامل .. ثورة فكرية تصحح العلاقة بين الحاكم والمحكومين ، وتعيد الكرامة وتقوّي روح الانتماء لدى البسطاء المنسيين . ” باب الفتوح ” جديرة بقراءة فنية متأنية ، إذ جمعت في تضفير نادر بين الحلم الرومانسي ، والبناء الكلاسيكي ، والأسلوب الملحمي ( البرختي ) ، وجديرة أيضا بقراءة سياسية إذ كتبت عام 1974 ، أعقاب العبور العظيم ، فكان اختيار محمود دياب زمن مسرحيته – في بعدها التاريخي – بين انتصار معركة حطين الذي تحقق بالفعل على يد البطل صلاح الدين ، واستعادة القدس ، الذي تم صلحا بعد الحصار المحكم ، كان اختيارا موفقا ، يحمل دلائل قراءته المفصلة الدقيقة لصراع القوى المعلنة والخفية في المنطقة ، وتفطنه لأساليبها الدموية ، وأساليبها الناعمة لتحقق أهدافها الثابتة . تبدأ أحداث المسرحية في زماننا الراهن ، وتصدر شخصياتها عن هموم تشغلنا وتنتقص ثقتنا في المستقبل :
” الشاب الأول : الصمت ثقيل .
الثاني : وأثقل منه انتظار ما لا نعرف ، زمنا لا نعلمه .
الثالث : الأسوأ من هذا وذاك ألا تعرف ما تريد .
الرابع : والأشد سوءا .. ألا تملك أن تريد .
” الفتاة ( 1 ) : لا أهمية لأن أريد ، فهناك من يفكر لي ، ويريد نيابة عني .
كل شئ يجري باسمي ، وفي بعض الأحيان لحسابي .. ” الخ
لابد أن يساورنا غيظ موجع حين ندرك أن هذا التوصيف السلبي لإرادة الأمة الذي نطق به شباب 1974 في المسرحية ، لا يزال ساري المفعول إلى الآن ، كما أنه كان المقولة النهائية للشقّ التاريخي في المسرحية ، وقد مرّ عليه ألف عام !! وكما أن الزمن العربي – في المسرحية – زمن مفتوح ، فإن الأرض العربية فيها واحدة لا تعترضها حدود ، بما يؤكد أن عوائق النهضة العربية ذات جذور ضاربة في الزمان والمكان العربيين . من هنا استقدمت إلي فلسطين شخصية الشاب أسامة بن يعقوب ، الأندلسي من أشبيلية ، الذي أطال تأمل المأزق الحضاري العربي ، فانتهى إلى تأليف كتاب أسماه : ” باب الفتوح ” ، وأراد أن يقدمه إلى أمير أشبيلية لعله يتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه من إمارات الأندلس التي بدأت ( في القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي ) تتهاوى مع تصاعد قوى الفرنجة الذي صادف مزيدا من تشرذم الإمارات العربية في الأندلس ، وهي ذات الفترة التي شهدت هجمات الحملات الصليبية وسقوط فلسطين ومعظم أرض الشام في أيدي الفرنجة . لقد أخفق أسامة الشاب الاشبيلي في أن يجد أميرا أندلسيا يتبنىّ مشروعه النهضوي الفكري ، بل لقد أصبح مطاردا من شرطة بلاده ، فما كان منه إلاّ أن سعى إلى فلسطين ، وتسلل إلى القدس ليلقى البطل الجديد صلاح الدين فيقدم إليه كتابه ، ولكن ” الواقع ” العربي واحد في أقصى المغرب وفي المشرق ، وهكذا حيل بينه وبين لقاء السلطان المنتصر ، بل أصبح مطاردا من حراسه ورجال حاشيته ، فاتفقت أجهزة الشرطة العربية على مطاردته !! فإلام كان يدعو الفتى الأشبيلي ؟
هنا تتولى المجموعة ( المعاصرة ) إعادة تحليل لمراحل الصحوة أو النهضة في التاريخ العربي الممتد لتكشف عن أسباب انكفائها على ذاتها ، وفشلها في تأسيس قوة جديدة صاعدة قادرة على حماية مشروعها النهضوي من الانتكاس . يقول أحد أفراد المجموعة : صلاح الدين أكثر الحقن المسكّنة انتشارا ، كان يحمل سيفا ، ولم يحمل فكرا ، والثورة فكر أولا !! ولذا يوصف انتصار صلاح الدين في حطين بأنه بمثابة إشراق الشمس على مستنقع موبوء !! ، ولهذا أيضا يستميت أسامة في سبيل إبلاغ محتوى كتابه ” باب الفتوح ” إلى صلاح الدين قبل أن يدخل القدس ، غير أنه لم يستطع ، فقد حالت ” كلاب الصيد ” – جماعات الحاشية والمنتفعين – دون تحقيق هذا اللقاء . على أن محمود دياب الذي أراق عمره القصير في كتابة إبداع فريد في تشكيله الفني ، فريد في فراسته وصدق بصيرته ، لم يترك قارئه أو مشاهد مسرحيته إلى القنوط ، فقد آمن شباب العصر برسالة أسامة حتى لقد تسمّوا باسمه ، وحفظوا كتابه ، واتجهوا لتحقيق هدفه الذي نذر له نفسه ، وهذه رؤية مثالية تقول إن الأهداف العظيمة قادرة على حماية نفسها ، وأنها يوما ما تصادف مناخها المناسب فتحقق وجودها .
لقد وزعت المسرحية عوائق النهضة ، وانتكاس الحضارة العربية على المحكومين والحكام على السواء . فالمحكومون مفرطون في حقوقهم ، متلهفون على الكسب الشخصي ، فالشعراء مشغولون بتدبيج قصائد المديح للسلطان ، تلك القصائد التي تتحول إلى أعطيات ، والكاتب عماد الدين حبس عقله في لغة مسجوعة مصنوعة يأمل أن تروق صلاح الدين فيمنحه مزرعة في القدس ، ولهذا ينذر نفسه – تطوعا – لمطاردة أسامة حتى لا يلتقي بالسلطان ويطلعه على كتابه الذي خلا من الزلفى كما تحرر من السجع ، من يدرى ؟! ربما أعجبه هذا الكلام المختلف ، وتعبر إحدى الفتيات عن جانب آخر من جوانب أزمة الحكم إذ تقول : إن صلاح الدين هو الأمل ، غير أن له قادة غلاظ القلوب !! وفي القدس ذاتها يظهر تاجر الغلال ، وتاجر العبيد ، وتاجر النفائس ، يسعون أفرادا وجماعة إلى السبق في دخول المدينة ( القدس ) قبل غيرهم ليتمكنوا من تسويق بضاعتهم والوصول إلى السلطان قبل غيرهم ، وثلاثتهم على وفاق تام مع اليهودية سارة التي استولت على بيت عربيّ تزعم أنها اشترته من أحد الفرنجة ممن رحل عن القدس ، وسارة تحتمي بإذن السلطان صلاح الدين الذي سمح لليهود بالبقاء في المدينة . أما ” خطايا ” الحكام فأولها تملك العبيد والجواري ، واستدلال الشعب ، فكما تقول المجموعة : ما من شيء يدفع عبدا أن يستشهد ليصون الحرية للأسياد ، وكذلك لابد أن يملك الشعب الحق في محاسبة السلطان ورجاله ، ولا يصح لأبناء السلطان أن يرثوا الحكم من بعده .
في مسرحية ” باب الفتوح ” يجري الفصل الثالث في القدس ، وفيها ندرك أن انتصار صلاح الدين بدخوله القدس كان منقوصا ، وأنه بتسامحه المسرف تجاه من لم يكونوا متسامحين لم يكن يدرك الفرق بين التسامح والتفريط ، وأنه باستئثار سارة وابنتها سيمون ببيت العجوز ” أبو الفضل ” وضياعه في مدينته والتنكر لتضحياته إنما كان يجرده من تاريخه !!