المقالة
مـدينة اللــه
تاريخ أسطوري
مع يقينه العلمي وإيمانه الإنساني بأنها ” مدينة الله ” ، فإن الدكتور حسن ظاظا ( 1919 – 1999 ) آثر أن يكون عنوان كتابه في صيغة تساؤل : ” القدس : مدينة الله ؟ أم مدينة داود!” . بين الوصفين تنافر وإن لعبت بهما السياسة المراوغة المعهودة في إسرائيل ، سيكشف عنه ويقدم أسانيده عليه بخبرة عميقة ودراية فريدة بدأت بدراسة اللغة العبرية بآداب القاهرة ، والحصول علي الماجستير من الجامعة العبرية بالقــدس ( 1944 ) ثم الحصول علي الدكتوراه من السربون ، ومع هذه المعارف ” الأفقية ” ، تتوازي خطوط المعارف ” الرأسية ” المرتكزة علي خبرة المعايشة لليهود بَدءاً من فرض العمل عليه بإحدى المستوطنات في فلسطين بذريعة تعلم العبرية الحديثة ، واستمرار مع العلماء اليهود الذين أشرفوا علي رسائله العلمية ، منهم المتحمس لدعاوى الصهيونية ، ومنهم المستنكر لها ، ثم وصولا إلي مؤلفات الدكتور ظاظا في الدراسات الإسـرائيلية : ( الفكر الديني الإسرائيلي – الشخصية الإسرائيلية – دراسات في الفكر اليهودي – الصهيونية العالمية وإسرائيل:بالاشتراك – وأخيرا:القدس مدينة الله ؟ أم مدينة داود !) ، وهو – علي صغر حجمه ، مستوعب لطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي حول مدينة القدس ، لذاتها ، ولرمزيتها ، ولمحتواها الديني والتاريخي .
متن الكتاب لا يزيد عن 42 صفحة ( بعد مقدمة ضافية عن حياة المؤلف وشخصيته ، ومؤلفاته .. بقلم الدكتور حلمي خليل أستاذ علم اللغة بجامعة الإسكندرية ، وتلميذ الدكتور ظاظا ) وفي هذا الحجم المحدود انقسم طرح القضية واستخلاص مراميها ، وغاياتها ، إلي فقرات يتصدرها عنوانان رئيسيان : من الحاضر إلي الماضي ، وهيكل سليمان وهياكل أخرى – لتقود العناوين الفرعية الصغيرة خُطَا القراءة .
تبدأ الدراسة بالغوص في الشخصية الإسرائيلية ، والكشف عن جبلتهَّا المتجّرة بقوة المأثور التاريخي ، وسطوة الممارسة . جوهر الأمرين معاً : الارتباط بغيبيات وأساطير متنكرة في ثياب التاريخ ، إن لم تنجح في خداع العالم بصورة نهائية ، فإنها تجره في دوامتها السحرية مدة من الزمن ، وليس أشد إزعاجا لكهنة السياسة الإسرائيلية في قديم الزمان وحديثه من ” القول الفصل ” و ” الحلّ العادل ” ، من ثم لا نتردد في أن تقتل ، لتتحول الجريمة المدبرة إلى دخان يُغلِّف المشهد ويخفي تفاصيله ، وهنا يذكّر بما صنعوا بنبيهم أرمياء ، وبيوحنا المعمدان ، ثم بعيسى المسيح .. وصولا إلي اللورد موين في القاهرة ، والكونت برنادوت الوسيط الدولي في فلسطين وسكرتير هيئة الأمم .
ينبه الدكتور المؤلف إلي أن الساسة الإسرائيليين نجحوا في إخفاء أو تأجيــل ” عقدة ” القدس،علي أهميتها البالغة بالنسبة لمشروعهم الصهيوني إعمالا لمبدأ التدرج ، وتوجيه السياق ، وانتهاز الوقت الملائم ، علي الرغم من أهميتها العظمي بالنسبة للمشروع الصهيوني ، إذ لا دولة صهيونية – في تصورهم ومزاعمهم دون القدس ، المدينة الرمز المقدسة . كان هذا واضحا ومعلنا شعارا يصطاد الأحلام ويشحن التائهين في أنحاء الأرض بمغناطيس الانجذاب إلي مرتكز جري إعلاء تقديسه عن عمد ، وتداول اسمه العبراني المصنوع ، والترنّم بعبارة من المزامير تقول : ” إن نسيتك يا أورشليم فلتنسني يميني ، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك ، إن لم أرفع أورشليم علي قمة ابتهاجي ” ، كانت هذه العبارات النارية المحرّضة رقية سحرية جمعت صهاينة العالم حول هرتزل ، وتذكر المصادر أن بريطانيا – زمن وزارة تشمبرلن – عرضت علي هرتزل تمهيد طريقه إلي أوغندا ( وسط أفريقيا ) لتكون وطنا قوميا لليهود ، وأنه قبل أو كاد ، ولكنه حين شاع عنه القبول وصمة غلاة الصهيونية بالخيانة ، وانقلبوا ضده ، وأطلقوا الرصاص علي مساعده ، وعند اجتماع المؤتمر الصهيوني السادس هتفوا ضد هرتزل في القاعة ، حتى إذا ما بدأ ينشد : ” إن نسيتك يا أورشليم …” صفا له الجو ، وسلمت إليه الزعامة ، ليقود المهووسين في اتجاه القدس .
لقد ظل هذا الشعار المزموري المتطرف مرفوعا لإلهاب أخيلة المتطلعين إلى إقامة دولة صهيونية خالصة لا مكان فيها لغير اليهود ، عمادها وعاصمتها ” أورشليم ” ، ولكنهم أشد حذرا وحصافة من أن يعترضوا بأهدافهم الخفية تيارات أخري ذات قوة وتأثير ، وهكذا نصبوا في مواجهة الشعار المتطرف السابق قولا أخر معسولا يرسم صورة مختلفة للقدس المحتملة في المستقبل ، هذه الصورة الزائفة تروّج لما لن يكون ، فتتحدث عن القدس بأنها ستكون ” المدينة المتحف ” ، ” والمدينة المقدسة ” لكل الأديان ، ” مدينة الله ” ، ولهذا قبلت إسرائيل – مرحليا – أن تبقي المدينة القديمة : ” القدس الشريف ” بالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وغيرهما من المعالم المسيحية والإسلامية ، جزءا من المملكة الأردنية إلى حين ، وكانت إسرائيل – ذاك الوقت – تستجدي رضا الرأي العام المسيحي في أوربا وأمريكا ، وتخدّر وتشتت الرأي العام الإسلامي في أفريقيا وآسيا ، كما تروغ تهربا من تهمة العنصرية ، وهي تهمة لم تعد تخشاها أو تنفيها الآن .
يتعقب الكتاب راجعا في عصور التاريخ مبتدأ هذه البقعة ، ومتي وكيف أنشئت بها مدينة ، ومن الذين أنشأوها فسكنوها واختاروا لها اسمها . ويقول الدكتور ظاظا إن أقدم النقوش التي ورد فيها هذا موجودة في المتحف المصري بالقاهرة ، ضمن مجموعة اللوحات المكتوبة بالخط المسماري واللغة البابلية ، تتخللها شروح باللغة الكنعانية ( لغة فلسطين القديمة ) ، ويصفها بأنها وثائق دبلوماسية ترجع إلي عهد الفرعون أمنوفيس الثالث ، وابنه إخناتون ، وفي هذه الوثائق كانت فلسطين قطعة من الإمبراطورية المصرية ، وكان حاكم مدينة ” أوروسالم ” معينا من فرعون مصر ، وأوروسالم هو الاسم القديم لمدينة القدس ، ولم يكن للعبرانيين حولها وجود ، غير مجموعات من الغجر الرحل ، أ/ا الاسم الأقدم – علي الإطلاق – فهو : ” قديتس ” ، أي : القدس ، وهو اسم وصفي ، لأنها كانت مركزا دينيا مقدسا منذ بدئها ، وفي جميع عصورها ، وقد سميت عند اليهود أنفسهم – في الكتاب المقدس : مدينة القدس ، وجبل القدس ، ومدينة الله ، ومدينة الحق – أما اسم أورشليم فليس عبريا ، إذ كانت تحمل هذا الاسم قبل دخول العبريين إليها ، بشهادة نص تل العمارنة .
يتدرج الكتاب بدقة وتفصيل – رغم صغر حجمه – إلي جذور السكان أول من عمّر المكان وهم اليبوسيون ، الذين أصبحوا : الكنعانيين ، الذين حملوا – فيما يعد – اسم : الفلسطينيين ، لم يقتلعوا من مدينتهم المقدسة ، ووطنهم غير أزمنة عابرة ، كما ترتد الموجة عن الشاطئ لتعود إليه أكثر قوة . ويتمهل الكتاب عند عصر داود ، وابنه سليمان ، وظروف تسمية المدينة باسم مدينة داود ، وهي تسمية مرحلية أيضا ، ويعرض ، ويناقش ، لينفي أساطير عن هيكل سليمان : حجمه ومكانه وهندسته ، وعلاقته المكانية بالصخرة ، والمسجد الأقصى . كما يعرض لخراب الهيكل ، مرتين ، والسبي الأول ، والثاني ، وانعكاس أحداث كبرى عالمية علي علاقة اليهود بفلسطين عامة ، والقدس خاصة ، مثل السبي البابلي ، وخروج العرب من الأندلس ، والحروب الصليبية ، وتسامح صلاح الدين الأيوبي معهم ، وصولا إلى ” لعنة ” بلفور .