المقالة
مدينة الله
سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا
يحتاج قارئ قصيدة محمود درويش التي يتصدرها عنوان هذه الفقرة إلى إيضاح بعض الجوانب ، علي الأقل المتعلقة بسرحان سرحان ، بخاصة إذا كان متلقي القصيدة دون الخمسين من العمر ، وليس له اشتغال مباشر بتفاصيل النضال الفلسطيني في سبيل استخلاص الوطن السليب . نستبعد من هوامش القصيدة القول بموت المؤلف ، وقد مات . رحمه الله ، وموت بطل القصيدة ، وقد أكمل في سجن كاليفورنيا الأربعين عاما دون أن تعمل أية جهة عربية أو غير عربية ، هنا أو هناك أو هنالك في اتجاه إطلاق سراحه . سرحان سرحان أول شرارة رفض حقيقية تضئ مساحة من ليل النكسة ( 5 يونيو 1967 ) كان شابا في مقتبل العمر ، من مواليد القدس ، وقد غادرها فتي يبحث عن رزقه ، فقصد الولايات المتحدة ، وكان اجر انتقاله في السفينة التي حملته الخدمة في مطبخها ، وفي كاليفورنيا استقر وحصل على الجنسية . وحين استدار العام ، وفي اليوم الخامس من يونيو 1968 أطلق سرحان النار على روبرت كيندي فأراده قتيلا في الحال ، وروبرت شقيق جون كيندي رئيس الولايات المتحدة الذي اغتيل جهارا نهارا في موكبه بمدينة دالاس قبل خمس سنوات من مصرع أخيه الطامح إلي دخول البيت الأبيض ، إذ رشح نفسه للرياسة ، وكان مبالغا في مناصرته للصهيونية ، وقد ارتدي طاقية شبيبتهم وشاركهم في مهرجانهم ، فجاءت رصاصات سرحان لتذكر العالم بمعاناة المقهورين وانه لا بديل عن العدل . لم يكن متيسرا اتهام سرحان بالتطرف ( الإسلامي ) لان هذا المصطلح لم يكن وجد بعد ، ولأن سرحان سرحان فلسطيني مسيحي . لقد حكم عليه بالإعدام ، ثم خفف الحكم إلى السجن مدى الحياة ، ولا يزال سجينا ، منسيا من الجميع ، ورفضت جميع التماساته للعفو عنه !!
هذا هو سرحان – ابن القدس – الذي أطلق شرارة الانفعال فشكلها محمود درويش في هذه القصيدة الفريدة في بنائها ، وهي بنصها ( 12 صفحة ) منشورة في ديوان : أحبك أو لا أحبك ( 1972 ) وهي إحدى مطولاته التي مهدت لقصائده الجدارية ( القصيدة الديوان ، والقصيدة الملحمية ) ولعلها أرهصت بهذين النمطين ، ولكنها – بملابسات تشكيلها الفني – لم تدخل في احدهما ، وكما نرى فإن عنوانها ( النثري ) وتفصيلاتها الصغيرة تقترب بها إلى الوصف والتحليل والاستدراك على المشاهدات مما يعطل روح الاندفاع ، فضلا عن انه ليس في شخصية البطل حلم أو نبوءة أو نذر أو حتى انفجار لحظة احتشاد وغضب !! فلعله قتل كيندي ليحسم موقفه الفلسطيني المعلق في منزلة بين المنزلتين ، أو هكذا رآه الشاعر بدءا من عنوان القصيدة الذي اختزل جوهر ما تضمر من رؤيا ، وليس لمحمود درويش فضل في اختيار اسم الفتي البطل ، فاقتصر فضله على تعليقه على لافتة عنوان القصيدة ، وفي سياقها أيضا دفع بهذا الاسم العلم ثلاثين مرة ، وبالضمائر مثل هذا أو أكثر ، وإذا كان ” سرحان ” يحتمل دلالتين متبــــاعدتين ( السرحان الذئب ، والسرحان الشارد – عامية ) فإن شرب القهوة يفضي إلى علامتين متباعدتين كذلك ، فقد ترددت في أثناء القصيدة عبارة : ” ورائحة البن جغرافيا ” وهنا نستدعي مطلع قصيدة قصيرة مشهورة لمحمود درويش :
أحنّ إلى خبر أمي / وقهوة أمي / ولمسة أمي ..
إن اقتران رائحة البن بالجغرافيا في العلاقة الخبرية ( والخبر – النحوي وصف في المعنى ) يجعل من عنوان القصيدة علامة انتماء ، تؤكده – في مسار القصيدة – مقاطع تصور العالم الجواني لسرحان ، ذلك العالم الذي حركه امتلاء لا شعوري بالتمرد على حالات القهر والتزييف التي يمارسها أعداء فلسطين ، وحالات المتاجرة والادعاء التي يمارسها بعض أبنائها وكثير من أبناء عمومتها ، أما العلامة على الطرف المقابل فهو ما يعنيه احتساء القهوة في الكافتيريا من استرخاء ، ولا مبالاة بما يجري بعيدا عن المكان ، وفي القصيدة يمكن أن نتلمس كلا الأمرين ، ولا يدل هذا على خلل في بناء القصيدة أو الاضطراب ، ولكنه يدل على ” حالات ” اجتازها سرحان بين يدي المحققين ، هي حالات لم تخل من تناقض ظاهري ، ولكن سطح التربة الساكن قبيل انفجار البركان لا ينبئ عن التيارات التي تغلي في الأعماق . دل مطلع القصيدة على ” المباغتة ” التي أعلنها إطلاق الرصاص ومصرع المزهو بحضوره بين أنصاره :
يجيئون ،
أبوابنا البحر ، فاجأنا المطر . لا اله سوى الله ، فاجأنا مطر ورصاص .
هنا الأرض سجادة ، والحقائب غربة !
يجيئون ،
فلتترجل كواكب تأتي بلا موعد . والظهور التي استندت للخناجر مضطرة للسقوط .
وماذا حدث ؟
أنت لا تعرف اليوم . لا لون . لا صوت . لا طعم . لا شكل ..
يولد سرحان ، يكبر سرحان ، يشرب خمرا ويسكر ، يرسم قاتله ويمزق صورته . ثم يقتله حين يأخذ شكلا أخيرا ..
ويرتاح سرحان .
في هذا المطلع حشد الشاعر خلاصة الحدث الذي رصد أطرافه في كل فطانه ، وسائر احتمالاته ، كما سنرى . إن مفاجأة المطر والرصاص ( أو الرصاص كالمطر ) أوجدت حالة أشبه ما يوصف به يوم القيامة : تترجل كواكب ، وتتغير طبائع ، وتغيب ملامح : لا لون ، لا صوت ، لا طعم ، لا شكل . أما سرحان فقد انتقل من عدم المبالاة إلي العكوف على تحين الفرصة لعمل أضمره ، وهو عمل أشبه بأعمال السحرة ، لا يكاد يصدق ، إذ ينتمي إلى ما يمارسه البدائيون من رسم صور العدو ، ثم تمزيقها أو إحراقها ليلحق هذا العمل بالشخص الذي تمثله ( وقد رأينا شيئا من هذا كانت تصنعه جداتنا في الريف ، إذا حرص طفل وأجريت له ” رقية ” ، فمع تلاوة أدعية أو سور قصيرة كانت تقص عروس ورقية ، تغرس فيها الإبرة صانعة ثقوبا لا تحصى تصاحب تلاوة التعاويذ ، ثم تحرق هذه العروس ) – إن هذا الارتفاع ، أو الهبوط بالحدث الماثل إلى مستوى الشعبذة ( تصويرا ) يملك قوة الإيحاء بعدم تصديق هذا الواقع الذي أصبح لا مناص من تصديقه ، لأنه .. وقع !!
هذا المستوى من عكوف سرحان على تدبير فعلته ، تقابله حالة ( لابد أن الذين شاهدوها من أبناء جيلي على شاشة التليفزيون في حينها ) يعجب رائيها كيف أن هذا الفتى الرقيق التائه ( السرحان ) إلى درجة الهشاشة استطاع بيده النحيلة ، دون مشاركة من احد ، أو تدبير مع احد ، أن يهز الولايات المتحدة ، فيهز العالم . إن محمود درويش ، وقد صوّر الشخصية المحورية عاكفة على هدفها ، ترسم وتمزق إلى أن تتجاوز مرحلة التمني فتقتل ، يصور الوجه الذاهل لذات الشخصية مؤسسا له على غياب علاقات السببية فيما صنع من فعل :
وسرحان يكذب حين يقول رضعت حليبك ، سرحان من نسل تذكره ، تربّى بمطبخ باخرة لم تلامس مياهك . ما اسمك ؟
- نسيت .
وما اسم أبيك ؟
– نسيت .
وأمك ؟
- نسيت .
وهل نمت ليلة أمس ؟
- لقد نمت دهرا
حلمت ؟
- بماذا ؟
- بأشياء لم أرها في حياتي
وصاح بهم فجأة :
- لماذا أكلتم خضارا مهربة من حقول أريحا ؟
- لماذا شربتم زيوتا مهربة من جراح المسيح ؟
بين العكوف علي الوطن ، واللامبالاة بما جرى ، تتوالى بدوات ، ستكون بمثابة عدسة يستجمع في شخص سرحان كل عذابات وطنه السليب .