المقالة
مدينة الله
سوسنة اسمها القدس
عنوان إحدى قصائد نازك الملائكة عن فلسطين ، استهلت بها ديوان : ” للصلاة والثورة ” صدر الديوان 1978- أما القصيدة فكتبت في 14 مايو 1973 ، ” كبسولة التفجير ” فيها أنه في هذا اليوم تحتفل إسرائيل بإعلان قيامها ، وفي عام 1973 وإلى أن نشبت حرب أكتوبر كانت نفوس الملايين من العرب والمسلمين قد أزهقت يأسا وقهرا ، وكان حثّ أصحاب القرار من الحكام وقادة الجيوش على التصدي للهوان قد اصطدم بحائط الصمت القاهر المقهور ، وهكذا تفجرت القصيدة في اتجـاه استحضار مشـــهد ( أخروي ) يحاسب فيه الله أمة العرب على ما ضيعت من جنة وهبها الرحمن لهم فأسلموها لأعداء الله ، وأعدائهم .
” السوسنة ” رمز القدس وتجسيد لها ، وهذه الزهرة العطرية تنبت في بقاع شتىّ ، وتختلف ألوانها حسب النوع ، فمنها الأبيض والأزرق والأصفر والأحمر .. إن هذه التعددية في الزهرة الرمز تجسد الشخصية التاريخية لمدينة القدس ، مدينة الله ، التي اتسعت لمختلف العقائد . في القصيدة يستوحي مشهد الحوار في عالم الغيب من مصدره الديني ، كما من أعمال إبداعية سبقت ( غفران المعري ، وكوميديا دانتي ) وفيها تتصدر صيغة سؤال التقرير من جانب الله :
ألم أعطكم موطنا ؟
أما كنت رقرقت فيه المياه مـرايا ؟
وحليته بالكواكب ؟ زينته بالصبايا ؟….
فلا يملك العرب – يومئذ – غير الإقرار : نعم قد منحنا الذرى والسواقي ومجد التلول / وهدب النجوم ، وشعر الحقول / ولكننا لم نصنها …
ويمضي سياق القصيدة من العام ( الموطن الذي لم نعرف كيف نصونه ) إلى السوسنة التي أسلمناها للعدو :
وقامر جهالنا بالضحى ،
بالربا ، بالسهـــول
بسوسنة اسمها القدس ، نامت على ساقيه
إلى جــانب الــرابيه
وفوق ثراها انحنت داليه
وتمطر فيها السماء خشوعاً ، تصلّي الفصول
ويــركع سنبلها ، تتهجّد فيها الحقــول
وعبر مساجدها العنبرية أسرى الـرسول
فمـــاذا صنعنا بــوردتنا النـاصعة ؟
إن الاستعارة المجازية ( السوسنة ) تأكد منحاها بالترشيح ( بلاغيا : تقوية المستعار منه ) إذ نامت على ساقية ، جانب الرابية ، تظلها دالية تمطرها السماء وهذه الاشارات الوضعية تقوي الشعور بسوسنة حقيقية من جنس النبات ، وهنا يبدأ التحول بالاستعارة المرشحة إلى استعارة مجردة ( بلاغيا : تقوية المستعار له = القدس ) فهذه السماء المقدسية تمطر خشوعا ( وليس ماء ) ، ليفتح هذا الاستخدام الاستعماري بدوره بابا يكشف عن خصوصية هذه السوسنة : المدينة المقدسة التي تتسع لكل العابدين ( تصلي الفصول ) ولم تعرف سنابلها غير الركوع لرب العالمين ، وتبقى الخصوصية الإسلامية في إسراء الرسول إلي مساجدها العنبرية . لقد جسدت مفردات تكوين الصورة المقدسية في هذا المقطع ما تتميز به مدينة القدس ، مدينة السلام والسكينة ( تتهجد فيها الحقول ) التي يتجاور فيها العابدون ويتعايشون في تناغم كما فصول العام ، لا يملك أحدها إسقاط الآخر أو تخطيه .. الملاءمة ماثلة في النسق الطبيعي كما أراده الله ، وتكيف به ، ومعه الوجود الإنساني . حين نتأمل بنية القصيدة نكتشف أنه يقوم على المقابلة بين الأضداد ، يبدأ هذا بعنوان القصيدة الموحي بالبهجة وتوقع الجمال ، ولكن تحولا حادًّا صارما تصنعه الأسطر الأولى ( المفتتح ) التي أشبعت صورة البشاعة التي تعقب الموت بتحول الجسد إلي تراب . إن عبارة : ” إذا نحن متنا وحاسبنا الله ” تكثف المعني وتقّطره ، ولكن مثل هذه العبارة المتداولة ناضبة الشعرية ، من ثم بدأت الشاعرة قصيدتها ببسط تفاصيل التحلل أو التحول إلى تراب من جديد عبر حفنة من الدود ، وحفنة أخرى من أشواك العوسج طوت صفحة الخضرة وموافقة الطبيعة . هذه الصورة المتخيلة ومكانها القبر تتبعها صورة مضادة ، صورة باهرة الجمال للوطن ، للأرض التي وهبنا الله فلم نعرف كيف نحافظ عليها حين أسلمنا زمامها إلى جهالنا . إن الشاعرة التي تقوم بدور العرّافة ، وتحمل النبوءة ، كما في الملاحم الكبرى ، كما تفضى بتفاصيل موقف المحاسبة وتداول السؤال والجواب ، فإنها تحفظ ” مقامات ” طرفي الحوار ، فليس أمامنا إلاّ الاعتراف ، بما كان :
فأنت منحت الجناح الطليق ، ونحن اخترعنا القيود
وهبتَ لنا القدس أنت ، ونحن دفعنا بها لليهــود
هذا ما يحيط به علمنا من خلال ممارساتنا في الدنيا ، ولكن للمفسرين أقوال عن مدى علم = رؤية الإنسان ( اللامحدودة ) عقب مغادرته الدنيا : ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) – الآية 22 سورة ق – لقد أفادت الشاعرة من هذا التحول في مدى الرؤية ، لتدعم بها رؤية معنوية ، رؤية العرافة حاملة النبوءة ، تعرضها علينا في قصيدتها بصيغة الحاضر متيقن الحدوث ، لتهدد غفلتنا ، وتثير فينا حسّ المسؤولية وحتمية المقاومة ، بهذه التفاصيل والتوقعات المخيفة الماحقة :
وقد تتمطي عصور الضباب بنا ، وتزول
كـــواكبنا ، ثم تأتـــي السيــول
وتجرف شتلاتنا
إن التحول الأخير في بنية القصيدة التي أقيم هيكلها على سلسلة من التحولات ، هو بذاته التحول الأول : الاعتراف بخطيئة الدفع بالقدس لليهود ، وهو ما يساوي الموت والتحول إلي حفنة من تراب !!
موسيقى القصيدة على تفعيلة بحر المتقارب ( فعولن ) وهو من البحور الصافية التي رأت نازك ، في تنظيرها للشعر الحر ، أنها التي تلائم شعر التفعيلة . يصف عبدالله الطيب في كتابه الموسوعي ” المرشد ” موسيقى المتقارب بأنها مضطردة ، سهلة ، كإيقاع الطبول ، تصلح لكل ما فيه تعداد الصفات وسرد للأحداث في نسق مستمر ، كما يشير ” الطيب ” إلى إيثار شعراء المسرح الشعري لهذا البحر ، فكأنما لمس – من مدخل الإيقاع – التشكيل الحواري / الدرامي ، الذي اتخذته هذه القصيدة البديعة .