المقالة
مدينة الله
قراءة في مزمور درويش
صدر ديوان محمود درويش ” العصافير تموت في الجليل ” – عام 1970، تتوسطه قصيدة قصيرة بعنوان : ” المزمور الحادي والخمسون بعد المائة ” ، ولأننا نعرف أن المزامير التي تضمنتها كتب ” العهد القديم ” عددها مائة وخمسون مزمورا ، فقد أوصلنا النص على رقم مزمور شاعرنا إلى أمرين : أن هذا المزمور الذي أضافه إلى مزامير الكتاب المقدس هو بمثابة ” تناص ” مع تلك المزامير التي نسب أكثرها إلى داود ، ونسب بعض منها إلى أنبياء آخرين ، منهم سليمان بن داود ، ورجل الله موسي ( المزمور التسعون ) ، وهي في جملتها قصائد مغناة ، تسبيح لله وضراعة ، ودعاء ، ورجاء ، وفي أثناء هذه الأدعية ذكر لأحوال ومحن وخطوب تعرض لها بنو إسرئيل في مصر ، وفي سبي بابل ، ومن قبل هذا وذاك في التيه .. الخ ، وهذه القصائد تردد عدة نغمات من أظهرها أن الله اختار شعب إسرائيل ومنحه وعدا بأرض كنعان ، وأن يمتد ملكهم ما بين البحر والنهر ، أما النغمة الأخرى فهي أن هذه القبائل المنتسبة إلى إسرائيل كانت في حياتها قبائل تعمق فيها الحسّ المادي الوثني ، والجحود والتنكر لأنعم الله عليهم ، ومع هذا يتعالون على الأمم ، بل يكادون يتباهون على الله ( سبحانه ) بأنهم – وحدهم دون غيرهم – الذين يمجدونه ، ويرونه خالق السماء والأرض ، وفوق جميع الآلهة التي صنعها البشر ، وأنهم لهذا السبب وحده ( يجب ) علي الله أن ينصرهم ليتأكد لدى هؤلاء الأغيار أن إله إسرائيل هو الحق ، وأن الآلهة الأخرى باطلة . هذا هو الوجه الموضوعي للمزامير ، أما الوجه الشعري فقد تضمنت صورا مجازية نادرة قد لا يستسيغها المعجم الإسلامي ، لكن طزاجتها وطرافتها تظل مميـــزة لها . ليس ” التناص ” هو الوصف الوحيد الممكن لضبط العلاقة بين مزامير العهد القديم ، وذلك المزمور الوحيد الذي صنعه درويش فهناك ” القراءة الأخرى ” ، كمـــا أن ” التضمين ” أسلوب قديم .
التناص في جوهره أشبه بالحفر الجيولوجي في طبقات نصّ من النصوص ، لتنكشف أنواع التربة التي تراكمت ، فصنعت أرضهـا الخــاصة وفق قــوانين تجاذبها الخاص . أما ” الاقتباس ” أو ” التضمين ” فهو أن يأخذ الكاتب أو الشاعر المتأخر من عبارة كاتب أو شاعر متقدم بعض ما يروقه ، فيرفد به رؤيته أو فكرته ، محافظا على نسقه الخاص ، مميزا له بالأقواس أو ما يشبهها من وسائل الفصل بين المنسوب إلى الكاتب ، والمنسوب إلى غيره من السابقين عليه . وهنا تختلف ” القراءة الجديدة ” أو ” القراءة الأخرى ” التي تؤدي إلى تأويل أو تفسير يكشف عن معنى لم يكن مألوفا ، أو قريبا متداولا ، أو متوقعا لهذا النص في صيغته الأصلية .
هذا الفرش الذي قدمنا به لقصيدة : “المزمور الحادي والخمسون بعد المائة ” كان ضروريا ليساعدنا على تلقي القصيدة في صورتها ( الشعرية ) المناسبة ، هكذا تبدأ القصيدة :
أورشليم ! التي ابتعدت عن شفاهي .. / المسافات أقرب / بيننا شارعان ، وظهر إله / وأنا فيك كوكب / كائن فيك . طوبى لجسمي المعذب !
يسقط البعد في ليل بابل / وانتمائي إلى خضرة الموت – حق / وبكاء الشبابيك – حق / صوت حريتي قادم من صليل السلاسل / وصليبي يقاتل .
إن السطر الأول بإسناده إلى المتكلم يستدعى متكلما مفترضا ، ولأن داود هو المتكلم الرئيسي في المزامير وهو الأكثر شهرة بها ، فإنه المستدعى إلى ذاكرة الشاعر وذاكرة المتلقي أيضا (على افتراض أنه يملك هذا القدر من مرجعية الثقافة) أما افتراض أنه لا يملك هذا المستوى ، فربما تطلب هذا أن يضمن مدخل القصيدة خيط ضوء يومض في اتجاه داود ، وهو ما لم يحدث ، بل حدث ما ينقضه ويرشح أن يكون المتكلم هو الشاعر نفسه ، إن استعارة الشارعين للعقيدتين المسيحية والإسلامية ( والشارع هو واضع الشريعة ) وما تبع هذا من إشارة إلى تعذيب اليهود للمسيح على الصليب ، ثم هذه الإشارة إلى ليل بابل ، وما يعني من معاناة اليهود في السبي ، وقد أشار المزموران 126 ، 137 إلى أن ما جرى كان عقابا من الله لبني إسرائيل ، كما أشار المزموران 89،79 إلى تدمير مملكة داود ، وإلى أن الأمم ( غير بني إسرائيل ) جعلوا أورشليم أكواما ، والإشارة إلى السبي وإلى تدمير مملكة داود تعني أن هذه المزامير وضعت بعد زمان داود ، من ثم يكون المسوّغ الفني ماثل في تجريد الشخصية اليهودية من علائقها الزمنية واتخاذ داود رمزا لها ، ومن الطبيعي أن الرمز مجرد من الانتماء الزمني ، كما أنه يطفو فوق التفاصيل .
استخدم محمود درويش عددا من مفردات المزامير ، على امتدادها ، في مزموره الوحيد ، في صدارتها ذكر مدينة بيت المقدس بالاسم الذي ينسب إلى داود ( أورشليم ) مع أن المزامير استخدمت وصف مدينة الله ( المزموران : 87،46 ) ومدينة الرب ( المزمور 101 ) وكان فيهما مندوحة لتقريب رؤيته ، ومع هذا آثر التسمية الأكثر شيوعا في المزامير ، ليقارب نسق التناص ويؤكد الوشيجة ، كما ختم مزموره بكلمة ” هللويا ” ثلاث مرات ، وقد ذكرت افتتاحا أو ختاما لعدد من المزامير ، وفي أحيان قليلة ذكرت في بداية المزمور ونهايته ، وهكذا كانت في المزامير الثلاثة الأخيرة ، وهي بمثابة تسبيــــح وتمجيد ، وذكرت مرة واحدة ( المزمور رقم 106 ) مقرونة بكلمة ” آمين ” ، وليس في هذا المزمور ما يدل على نسبته إلى قائل ، فاستخدام ” هللويا ” في نهاية المزمور جاء لتقوية الصلة بالأصل ، ولكن الاستدراك على هذا الأصل لانقلاب معانيه إلى عكس ما تعنيه يؤكده المقطع الثاني :
أورشليم التي عصرت كل أسمائها / في دمي .. / خدعتني اللغات التي خدعتني / لن أسميك / إنّي أذوب ، وإن المسافات أقرب / وإمام المغنين صُك سلاحا ليقتلني / في زمان الحنين المعلب ، / والمزامير صارت حجاره / رجموني بها / وأعادوا اغتيالي / قرب بيارة البرتقال …
أما إمام المغنين فهو داود نفسه ، إذ لم تذكر هذه الصفة إلا مقترنة بما نسب إلى داود من المزامير ، وفي تقديم المزمور السابع تقول العبارة : ” شجوية لداود غناها للرب بسبب كلام كوشن البنياميني ” . وعبارات ضراعات داود وتسبيحاته لإلهه غاية في التذلل وإظهار الضعف والزهد ، إن صورته في المزامير صوفية متجردة ، فكيف صك منها خلفاؤه المحدثون سلاحا ، مع الاستمرار في ادعاء الحنين إلى زمانه ، هذا الحنين الذي وصف بأنه ” معلب ” ؛ ليس طبيعيا ، وليس في زمانه ، الذي شهد تحول المزامير إلى حجارة !! وهنا تستوقفنا عبارة : أعادوا اغتيالي قرب بيارة البرتقال . إن الإعادة تعنى حدوث ذلك من قبل ، وربما تكراره أيضا ، وهذا ما تتحدث عنه كتب العهد القديم من استحلال بلاد كنعان ودماء الكنعانيين ( الفلسطينيين ) بدعوى أن الرب أورثهم البلاد بوعد منه ، وجعل لهم السلطان المطلق على حياة الأغيار ، فهم عندهم بمثابة البهائم والدواجن ، إذا قدروا عليهم ساقوهم إلى الموت دون أدنى قلق في الضمير .
ويختم محمود درويش مزموره بإثبات دموية المدينة المقدسة ( خيانة مبدأ السلام فيها ) والتضحية بالبشر لتصديق الأساطير الإسرائيلية ، وإعادة منطق السبي البابلي معكوسا ، وكأن الفلسطيني هو الذي بنى أسوار بابل ..
أورشليم ! التي أخذت شكل زيتونة داميه / صار جلدي حذاء / للأساطير والأنبياء / بابلي أنت . طوبى لمن جاوز الليلة الآتية / وأنا فيك أقرب / من بكاء الشبابيك . طوبى / لإمام المغنين في الليلة الماضيه .
إن شبابيك القدس تبكي ، وصانع المزمور الحادي والخمسين بعد المائة معذب ببكائها وإن يكن كوكبا منجذبا إليها لا يملك عنها حولا ، أما المغني القديم ، فإنه رافل في مسرات غنائه ، لا يفكر فيما جرى من تزوير في المزامير ، يتوعد الزمن القادم بالنار والدمار ، فطوبى لمن يواتيه أن يتجاوز الليلة الآتية !!