المقالة
مدينة الله
قومي إلى الصلاة
ما بين شهر النكسة ( يونيو 1967 ) وشهر الحريق الآثم الذي تهدد المسجد الأقصى ( أغسطس 1969 ) أنتج ” محمود حسن إسماعيل ” أربع قصائد عن مدينة الله ، وما تنطوي عليه من مقدسات إسلامية ومسيحية ، وما تتعرض له من عدوان همجي على يد المتعصبين من اليهود . قصيدة واحدة في ديوان ” التائهون ” ، هي مفتتحه ، بعنوان : ” قومي إلى الصلاة ” ، قدم لها بقوله : ” مع القدس الحزينة ، وهي تذرف غضب السماء على رجس المعتدين ” ، والقصيدة مناجاة ضارعة إلى المدينة المقدسة لحظة انكسارها وتدنيس جنود العدو لحماها الشريف . بهذه الآبيات بدأت :
وعادت الطيور في المساءْ
فلم تجد في القبّة الضيـاءْ
ولا صدى الترتيل والدعاءْ
فهزََّت الأوتار بالنــداء :
يا قـدسُ يا حبيبة السماءْ
قومـي إلى الصــلاه …
وبـاركي الحيــــاه ..
هذا مطلع عبقري يكشف عن صدق البصيرة الشعرية والنفسية . إن هذا المشهد المتخيل هو أشد ما يوجع المؤمن العاشق ، إنه لا يستطيع أن يحتمل تدمير ثوابت حياته ، ولا يستطيع أن يتقبل أن تظل شواخص الطبيعة على حالها وكما كانت دائما ، إذا ما تخلّى هو عنها أو أبعدته صروف الدهر . ها هي ذي الطيور التي تجد أمانها وسلامها ومبيتها حول المسجد الأقصى وفي قبته ، واعتادت نورها وما يتردد فيها من ترتيل ودعاء ، وتشكلت حياتها الحرة وفق هذا الطقس اليومي النبيل .. ها هي ذي ، تعود إلى موطنها فلا تجد تراتيل أو أدعية أو ضياءً . لقد عزّ على هذه الطيور أن يختلّ النسق الفطري للمكان ، وأن تسكنه الوحشة والصمت والظلام ، فأرسلت أصواتها السماوية تنادي حبيبة السماء أن تقوم إلى الصلاة ، وتبارك الحياة . هذا الختام للمطلع لا يدل على الخذلان أو الهرب من مواجهة العدو ، فالصلاة أساس الجهاد ، ومباركة الحياة تعني رفض الرضا بالواقع المرحلي الذي فرض نفسه في غفلة من الوعي بمنحدر التـاريخ . إن هذا المقطع الافتتاحي ، وقد أسس له في العبارة التي تقدمت القصيدة تفتح أفق” القبة” و ” الترتيل ” و ” الدعاء ” للمؤمنين المعظمين للأقصى ، والممجدين لكنيسة القيامة على السواء ، إنّ مشهد الأسى بغياب الضياء وانقطاع الترتيل شامل للجميع ، ولهذا جاء نداء طيور المساء شاملا لجملة المدينة : ” يا قدس يا حبيبة السماء ” ليتولى المقطع الآتي تأكيد هذا المعنى بالنصّ عليه :
وردّدي التسبيح في المـآذن
وأيقظي الأجراس في المدائن
وكبّري لله .. لا تهادني …
إن القصيدة التي استهلت بمشهد يمسخ النسق الكوني الإيماني ( بغياب الضياء وانقطاع التراتيل ) تطمئن ، أو تريد أن نطمئن إلي أن مجابهة قوانين الوجود لا يمكن أن تدوم ، فإذا اختل الميزان بفعل طارئ غريب ، فإنه لا محالة صائر إلى الاعتدال :
قومي .. ومهما اشتدت الجراح
فكل ليل بعده صبـاح
وكل هول بعده سكينه
تمحو ظلام البغــي والضغينـه
وترجع الشفاه .. للشدو والحياه
وهذا مصداق مباركة الحياة ، بالقيام إلى الصلاة
هذه القصيدة – كما أشرنا – بداية ديوان ” التائهون ” الذي صدر في شهر النكسة ذاته ، وهي قصيدة أقرب إلى النسق الموشحي إذ تكونت من مقاطع ، يستقل كل مقطع بقافيته ، غير أنه يعود في ختامه إلى ما يماثل قفل الموشّحة ، بالعبـارة المتكــررة : ” قومي إلى الصلاة .. وباركي الحياة ” .
بعد ثلاث سنوات من الديوان السابق ” التائهون ” صدر الديوان التالي معلنا رفض التيه ، ومحتفظا برمزية الصلاة ، فكان عنوانه : ” صلاة ورفض ” ( وهو الديوان التاسع للشاعر=1970 ) ، وفيه ثلاث قصائد في جوهر موضـوعنا ، الأولى منهـا بعنـوان : ” القدس تتكلم ” ، ومن قراءة القصيدتين ( قومي إلى الصلاة ، والقدس تتكلم ) يتبينّ لنا أن الشاعر – على الرغم من المسافة الزمنية بينهما – لم يستطع ، أو : لم يرد أن يغادر الحالة الشعرية التي أبدع بدوافعها قصيدته الأولى ، فكانت هذه الأخرى تُشاكلها في الوزن ( القصيدتان على تفعيلة بحر الرجز = مستفعلن ) ولا يغيب عنا أن القصيدة الأولى كانت القدس تقوم فيها بدور المخاطب ، ولهذا تعددت في مطالع المقاطع صيغ الطلب : قومي ، رددي ، أيقظي ، كبرّي ، واصلي ، باركي – وصيغة النهي الواحدة : لا توقفي الدعاء للرحمان ، مهما لقيت من أذى الشيطان . أما القصيدة الأخرى فإن القدس فيها هي التي تتكلم ، فهذا في البلاغة ” تشخيص ” ، وفي الشعر قناع . وإذا تكلمت القدس – بعد عامين من اقتحام الغزاة الصهاينة لآلائها الشريفة – فإن كلامها ، بعد المعاينة يصدر عن معاناة ، وهي معاينة لها جذرها التاريخي المدون في الكتب المقدسة :
حين رأيت ذابــح التــوراة
وقــاتل الهـــادين للحياة
وشــارب اللعنة من آياتي ..
ينهش نــور الله من هـالاتي
ويبذر الظلمـــة في ساحاتي
ويغرس الرجس على راحاتي..
تضـــرمت ….
إن الحضور الإسلامي والمسيحي يؤكدان أن المدينة المقدسة تتكلم بصوت واحد هو صوت الإيمان ، والإنسان ، فاحتراقة الأيام ، على طريق الدمع والآلام :
صفّدت مسابح الإلهــام
وشلت الأجراس بالأنغام
ويبقي أمل القدس صامدا ، واثقا من اعتدال ميزان الحق :
ستــرجع الحياة للتبتّل
في مسجدي الباكي وعند هيكلي
على ثرى الله ، ومرقى الـرسل