المقالة
مدينة الله
لا أرى في القدس إلاّ أنت !!
ختام قصيدة ملحمية ، يشف عن نبوءة تفضي بها تكوينات وتومض ألوان بهرجة مشرقية تحاول أن تواري لوعة التاريخ وأوجاع الحاضر بهذه المشاهد المنتقاة التي نظمها في سمط القصيدة الشاعر تميم البرغوثي . ينهض بناء القصيدة علي ثنائيات تتأطر في الشكل الموسيقي ، إذ تبدأ بستة أبيات من الموزون المقفّـى ( من بحر الطويل ) تعمق التواشج مع تراث الأمة ، في نسقه الإيقاعي كما في روحه المستسرة ، لينفرط الانضباط النسقي بعد ذلك وحتى إعلان النبوءة في الختام ، باتخاذ تفعيلة بحر الكامل حسب تماوج درجات الانفعال تساوق امتداد السطر الشعري :
هكذا بدأت القصيدة :
مــررنا على دار الحبيـب فــردنــــا عن الدار قانون الأعادي وســــورها
فقلـت لنفـسي ربما هــي نعمــة فماذا ترى في القدس حين تزورها
تـرى كل ما لا تستطيـع احتمـالــه إذا ما بدت من جــانب الدرب دورها
ومـا كـل نفـس حين تلقى حبيبها تســر ولا كـــــل الغيـاب يضيــــرها
فإن ســـرها قبـل الفـــراق لقاؤه فليس بمـأمـــون عليهـــا ســرورها
متى تبصـرِ القــدس العتيقة مرة فسـوف تراها العين حـــيث تديـرها
عنوان القصيدة – كما وضعه الشاعر – ” في القدس ” ، شبه جملة في قوانين النحو هو خبر يحتاج إلي تقدير مبتدأ ، لا يخرج المعني عن حياده ، ولكنه في منطق العتبات سيكون مبتدأً ، وجسد القصيدة هو الخبر !! وهو خبر دال غير محايد ، ختامه النبوءة ، تكررت صيغة العنوان أربعا وعشرين مرة ، لتقود التلقي في اتجاه العناية بالمكان ، إذ تتصدّر ” في ” الظرفية ملتصقة بالمدينة / العلم / المكان . في هذا المطلع المنظوم المقفّى تتجلى معطيات التراث حتى لنشعر بأن تميم البرغوثي قد احتواه واستخلص أصفى ما يتجاوب وتجربته الماثلة التي منحها بعدا تنبؤيا تاريخيا ، ذلك أن النفس الصوفي – بخاصة عند ابن الفارض – يستدعي مطلع رائيته : شربنا علي ذكر الحبيب مدامة . كما يستدعي البيت الأخير في المطلع بيت الشريف الرضي المشهور :
وتلفتت عيني فمذ خفيت عنّي الطلول تلفتَ القلب
هذا مع رصانة العبارة ونقائها ، وإرسال الحكمة وتسلية النفس بفوات الهدف المنشود . ولقد استتبع اختلاف الوزن بالانتقال من الموزون المقفّى إلى نسق التفعيلة اختلاف الأسلوب من الفحولة التراثية الماثلة في كثافة المعنى وإحكام العبارة إلى ما يجاري ” الريبورتاج ” الصحفي ، في اقتراب لغته من لغة الحياة اليومية ، ويتجاوب هذا مع العناية بالتفاصيل والميل إلي رسم المشاهد وتسليط الضوء على ما بينها من تناقض . ومن المهم – وقد أشرنا إلى ما بين المطلع وجسد القصيدة من الاختلاف – أن نتوقف عند الخيوط التي شدت الجسد إلي ذلك الرأس / المطلع ، فاكتسبت القصيدة معناها الكلي دون تهجين .
إن ما تبرهن عليه الصور الراصدة لما يجري في القدس أن هناك محاولات مستميتة لتجريد المدينة المقدسة من شخصيتها التاريخية ، تصفية دمائها العربية ، وإحلال دماء أخرى مستوردة ، تفتقد القيمة والأصالة والتكافؤ :
في القدس بائع خضرة من جورجيا .. / في القدس توراة وكهل جاء من منهاتن العليا يفقه فتية البولون في أحكامها / في القدس شرطي من الأحباش ../ وسياح من الإفرنج شقر لا يرون القدس إطلاقا / تراهم يأخذون لبعضهم صورا مع امرأة تبيع الفجل في الساحات طول اليوم .
هذا المقطع بمثابة الاستهلال ( الثاني ) للقصيدة ، يتصدر الصورة الحاضرة للمدينة ، وهي صورة ملفقة ، صورة مسخ ، صورة مادية من المعادن الرخيصة ، في مقابل الاستهلال الروحي المتجذر في ثقافة الأمة . وكما يكون المسخ دائما مثيرا للغرابة ، فإنه يثير قدرا من الإشفاق أيضا ، وقد تجمع الإشفاق والتهكم معا في موقع ” الإفرنج ” الشقر الذين خاض أسلافهم المعارك الصليبية طوال مائتي عام بذريعة استخلاص مهد المسيح من أيدي المسلمين ، فها هم خلفاؤهم يدخلون القدس ( سياحا ) ولا يرونها ( إطلاقا ) يتلهون بصغائر الأمور ( بائعة الفجل ) عن كبائرها ( تغيير الطابع الروحي المسالم للمدينة إلى : رشاش علي مستوطن ، والجند منتعلين فوق الغيم !! ) وإذ يمضي جند الصهيونية بنعالهم فوق الغيم يصلي المسلمون على الإسفلت ، وهذه المفارقة لا تحرك شيئا من وجدان من شغلهم التقاط الصور مع بائعة الفجل من خلفاء ريتشارد قلب الأسد ، ولويس السابع ومن بعده التاسع ، حتى اللنبي الذي سجل حضوره ( المتحدي ) في دفتر تشريفات صلاح الدين !!
لقد اتسعت المدينة لكل شذاذ الآفاق ، من جورجيا ومنهاتن وبولونيا والأحباش والإفرنج والزنج والقفجاق والصقلاب والبشناق والتتار والأتراك .. في القدس من في القدس إلاّ أنت !! وهذه هي المفارقة الكبيرة التي أقيمت عليها دعائم من التكامل ( وليس التناقض ) ، نجد هذا في نوعيْ موسيقى البحر والتفعيلة ، كما نجده على مسافات مقدرة في سياق القصيدة : فقد بدأت القصيدة بنهايتها : ( ردنا عن الدار قانون الأعادي وسورها ) لكن عينه المشتاقة اختطفت هذه المشاهد الآسية لمدينته التي تتسع لأي أحد غيره ، فيقرأ في مستقبلها أن هذا الزيف محال أن يدوم ، إنه الوجود الحقيقي والمآل الحتمي ، وبهذا تحققت ثنائية الراهن والمستقبل ، كما أن دهرها دهران ، وفيها تنهض القبة شامخة تواجه السماء ، وفيها يستوطن الإنجيل والقرآن ، وكما ينقسم دهرها إلي دهرين ، فإن الصبح فيها يخضع لاعتبارات هذه الثنائية :
ونوافذ تعلو المساجد والكنائس
أمسكت بيد الصباح تريه كيف النقش بالألوان
فهو يقول : لا بل هكذا
فتقــول : لا بل هكذا
حتى إذا طال الخلاف تقاسما
فالصبح حر خارج العتبـات
لكن إن أراد دخولها فعليه أن يرضى بحكم نوافذ الرحمن
إن النفس الروحي ( الصوفي ) يواكب الحضور العربي ، الماثل في تكوين المدينة المكان ، والمدينة الإنسان ، هو جوهر تاريخها الذي وحد بين أطراف الوجود الكوني : سماء وأرضا ، جدرانا وبشرا ، كما وحد بين طبائع الحضــارات ( الروحية ) القديمة ، التي تأصلت في دكاكين خان الزيت ، إذ تشم روائح بابل والهند ، التي تطاردها – الآن – قنابل الغاز المسيل للدموع !! إن الصور الثنائية التي صنعت بنية القصيدة أقرت قدرة هذه الثنائيات على التصالح والتفاعل الذي يفضي إلي تكامل ، ، لكن ثنائية واحدة لا يمكن أن تؤدي إلي هذا المصير التوحدي ، لأنها ثنائية مطاردة ، مضطهدة ، مرفوضة بقانون الأعادي الذي أحاط المدينة بالسور ، ثنائية : الآخرون وأنا ، أو : الآخرون أم أنا ؟