تداعيات – 7 ديسمبر 2016
تداعيات
إذا كنت مأكولا فكن خير آكلٍ .. وإلا فأدركني ولمَّا أمزقِ
هذا البيت من الشعر الجاهلي القديم ، يُنسب إلى شأس بن نهار العبدي ، وقد وجه بالبيت في سياق قصيدة إلى الملك عمرو بن هند يطلب أن ينجده بطريقة ما ..
والمعنى القريب للبيت أن الشاعر يدرك أنه في حصار ، وأنه لا يملك رفعه ، ومن ثم لا يجد مفرا من الاستنجاد بقريب إليه قد لا يكون رجل الساعة ، لكنه الرجل الممكن ، فإما أن ينجده ، وإما تتحقق غاية الحصار عن طريق هذا الصديق ، فهو خير من العدو الصريح !
وحين حوصر الخليفة الراشد عثمان بن عفان وأيقن أنه أحيط به كتب بهذا البيت ، ووجه به إلى علي بن أبي طالب ، والمغزى واضح . وقد بادر الإمام علي إلى العمل في اتجاه إنقاذ عثمان ، ومواجهة الثوار، ولكنه عجز عن تفريقهم أو إضعافهم لكثرة حشودهم ، واستهانتهم بصحابة رسول الله ، وما يعنيه هذا الوصف ، فانصرف وترك ولديه : الحسن والحسين يحرسان باب الخليفة المحاصر .. ولكن هيهات !!
وفي عام 1958 تحرشت تركيا بسورية ، فلم يكفها أن ضمت إليها إقليم الإسكندرونة السوري ، فحشدت جيوشها على حدود سورية مهددة بإسقاط حكومتها ( العسكرية ) وضم مزيد من الأراضي إليها . وهنا أسرع الضباط الحكام بالطيران من دمشق إلى القاهرة ، فوضعوا أمام عبد الناصر الإحتمالين المذكورين في ذلك البيت الشعري ، وخلاصة الموقف : إذا كان ولابد أن تُأكل سوريا فليكن ذلك مع القاهرة وبيدها ، أما أنقرة فليست الملاذ المؤتمن !!
وتردد عبد الناصر في قبول قيام دولة الوحدة تحت هذه الظروف الطارئة إقليميا وعالميا، لكنه قبِل العرض تحت ضغوط شعبية ( سورية ، ثم مصرية ، ثم عربية عامة ) هائلة .
قامت دولة الوحدة : ” الجمهورية العربية المتحدة ” فنجت سورية من براثن الحلم الهمجي الكامن في كوابيس الأتراك .
بعد سنوات صدر ” ميثاق العمل القومي ” وبدأ التأميم (1961) ، وعلى الفور حدث انقلاب عسكري قام به ضباط من حزب البعث في دمشق وأعلنوا الانفصال عن دولة الوحدة !! إلا مدينة ” حلب ” تلك التي تتسابق وكالات الأنباء في الإعلان عما لحق بها من دمار .
” حلب ” رفضت الانفصال وأصرت إذاعتها على ترديد : ” إذاعة الجمهورية العربية المتحدة من حلب ” وأعلنت قطيعتها مع حكومة دمشق الانقلابية !! من ثم أصبح واضحا أن مواجهة دامية توشك أن تكون مدمرة للوطن السوري نفسه ، وهنا أصدر عبد الناصر توجيهاته للوحدويين في حلب أن يرتضوا بالتغيير صونا للوطن فيعترفوا بالانقلاب .. بالانفصال ، في الوقت الذي أصدر فيه عبد الناصر توجيهاته إلى قائد الصاعقة المصري البطل جلال هريدي ، وفرقته ( 600 جندي ) التي أنزلت بالفعل على الشاطئ السوري لمواجهة الانفصال ، أن يُسلم سلاحه للحكومة الانفصالية في دمشق تجنبا لإهدار الدم العربي بالسلاح العربي !!
” حلب ” جوهرة ساكنة في القلب ، وسورية نجوى الضمير وحزام الأمان لمصر .. بغير مزايدة ، فليت الذين صنعوا المأساة هناك تذكروا هذا البيت ( الجاهلي ) يوم الانفصال ..
ما كان جرى لسورية ، أو لجيرانها ما يجري الآن ولا نملك له رداً .
.. ” ليت ” – وهل تنفع يوما ليتُ ؟!