تكلم حتى أراك !! – 3 أغسطس 2017
تكلم حتى أراك !!
اختار إحسان عبد القدوس العبارة :”لا أكذب ولكني أتجمل” عنوانا لإحدى رواياته الشائقة ، وفيها حاول –على لسان البطل- أن يفرق بين الكذب وتجميل الواقع ، على الرغم من أنهما سينتهيان إلى نقطة واحدة ، فتجميل الواقع يعني تحريفه ، والإضافة إليه ، والاقتطاع منه ، وهذا ضرب من مجانبة الإفضاء بالحقيقة (=الكذب) .
وقد حدثني الكاتب المسرحي محفوظ عبد الرحمن بأنه –بعد أن ذاع صيته- بكتابة أعماله التلفزيونية (الدرامية) : الكتابة على لحم يحترق – بوابة الحلواني – أم كلثوم – سعى إليه عدد من نجمات السينما والتلفزيون – من جيل سابق – تتمنى كل منهن أن يكتب لها مسلسلا تلفزيونيا ، يصورها شخصية مكافحة في سبيل الوطن ، أو المجتمع ، أو التقدم ، أو التنوير ، أو العلم ، أو السياسة .. المهم أن تكون شخصية مثيرة للإعجاب (كاملة الأوصاف) في حين أنها إبان عمرها الطويل لم تكن نموذجا لذلك ، أو تسعى إلى أن تكون على مقربة منه في حياتها أو في فنها !!
.. فأنظر الآن إلى ما أمليه من وقائع العمر ، وواقع الحياة ، فأجدني (لا أكذب ولا أتجمل) ولكنني أنتقي من مساحات مفتوحة بالعمر الطويل ، تلك المواضع أو المواضيع التي لا تظهر جوانب الخذلان في الشخصية (شخصيتي) ، وهذا نوع من تملق النفس ، أو محاباة الذات واسع الانتشار ، فلست فيه نمطا مفرداً ، ولعل هذا ما دفعني إلى التطرق لبعض الإخفاقات الموجعة ، التي عجزت عن مواجهتها!! ولكنني بعد أن قرأتها اكتشفت أنني تجنبت تلك الإخفاقات (الشنيعة – شديدة الوجع) بما يعني أن محاولة هدهدة النفس لا تزال تبسط هيمنتها على عملية انتقاء المواقف المميزة ببراءتها ، أو عسرها ، أو طرافتها ، أو وجعها .
سأذكر ثلاثة مواقف من نوع الوجع الذي جسد موقفا عجزت عن مواجهته ، وكان دفاعي فيه عن نفسي صامتا تماما ، أو متخاذلا لدرجة الانسحاب .
الموقف الأول : حين تعاقدت مع وزارة التربية الكويتية للعمل مدرسا سجل كاتب العقد – في
القنصلية بمصر- أنه لو اثبت –بتوقيع العميد- أنني قضيت عاما دراسيا (عاليا) بنجاح بعد الليسانس تحتسب لي علاوة!! فرحت بكلمة (علاوة) وظننت أنها ستكون على الطريقة المصرية دينارا أو ما يقاربه . وهناك –في الكويت- قدمت تلك الشهادة بتوقيع عميد دار العلوم (الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس) وكان آخر توقيع له قبل عزله من العمادة بسبب يسارية أخيه عبد العظيم أنيس . في الكويت استردت الوزارة عقدها وأمدتني بعقد جديد فيه علاوة أربعة دنانير ونصف!! لم اصدق نفسي ونعمت بتلك العلاوة أربع سنوات ، ثم بدأ الترشح للترقيات ، وعُرض اسمي ، وروجعت وثائقي ، فاكتشف ديوان الموظفين هناك أنني حصلت على تلك العلاوة السابقة دون وجه حق! لأنها –في رأي جهابذة ديوان الموظفين- تمنح لمن حصل على دبلوم في التربية (نصا) وليس في الدراسات العليا المتخصصة !!
ترتب على هذا استعادة مبلغ العلاوة الذي صُرف في ثلاث سنوات في مدة ثلاثة اشهر حتى جاء علينا زمن – ونحن في الكويت- لا نجد ما يمكن أن ننفقه طوال شهر بعد دفع إيجار السكن . هذا أمر يمكن احتماله ، وقد تحملته ، مع أنني لم أقدم أية بيانات مخادعة ، ولم اشترط شيئا عند تعاقد القاهرة ، بل موظف الوزارة هو الذي أضاف هذه العبارة بخط يده ، وما كان عليّ إلا أن حققت الشرط . شرحت هذا للمسئول في الوزارة فقال : نفترض أن الموظف أخطأ ويستحق العقوبة ، ولكن ماذا تستفيد أنت من معاقبته ما دمت – لابد – أن تعيد ما أخذته بغير حق ؟!
هذا الموقف الكئيب ، الذي أصر بعد مرور ستين عاماً ، على أنه كان موقفا ظالما جائرا ، تحملته ، وكتمته في نفسي ، ولكن المؤسف أن أصواتا من زملاء مصريين وغير مصريين ، معي في المدرسة وخارجها راحوا يرددون أنني – ذلك المدرس الذي بدأ اسمه يلمع ويشارك في تأليف الكتب – ليس كما تظنون ، لقد خدع الوزارة وحصل على دنانير ليست من حقه ، واستردتها منه !!
لم يكن لديّ أية قدرة على المواجهة ، أو حتى التوضيح ..مجرد التوضيح ، فهل لديك أنت ؟!