مولانا أبيقور !! – 28 ديسمبر – 2017
مولانا أبيقور !!
وهنا أوضح أمرين : أن “المولى” من الألفاظ المشتركة في اللغة العربية ، بمعنى أنها تحتمل الضدين ؛ فالمولى هو السيد ، وكذلك تطلق على العبد ، أو التابع (وكان الأستاذ العقاد يمكر بمحدثه فيخاطبه : يا مولانا) فلا تدرك أي معنى يريد !!
الأمر الثاني يتعلق بالفيلسوف الإغريقي “أبيقور” – القرن الرابع قبل الميلاد- وإليه ينسب مبدأ (اللذة) ففي رأيه أن اللذة غاية ، وأنها الخير ، ومن اللذة إقصاء الألم ، وعن طريق الحكمة يطالب العقل باختيار أفضل اللذات ، وتجنب الألام ، ولكن هذا المعنى الفلسفي عبر عنه أحيانا بـ الكلبية ، بدعوى أن الكلب يسعى بغرائزه إلى تحقيق اللذة ، ويهرب من الألم !! امتهانا له أو استهانة . وأبيقور – في سياق الفلسفة العامة – مظلوم ، فإننا لا نستطيع ، ولا نطالب ، بالقضاء على غرائزنا الطبيعية ، التي يمكن اختصارها في اللذة والألم . وكان شيخنا الدكتور أحمد هيكل (وزير الثقافة) رحمه الله ، وهو يلقي علينا محاضرات عن الشاعر “علي محمود طه” – يتجنب وصفه بـ”التساهل الخلقي” ، ومجاراة لذاته ، اكتفاءً بأن يقول : ” كان شاعرا أبيقوريا ! “(غفر الله للشاعر ، ورحم الأستاذ) .
وهنا يأتي السؤال : هل يستطيع الإنسان أن يتجنب الألم ، مهما أوتي من الحكمة ؟! هذا محال . وقد حاولت أن أتجنب – فيما صورت من مشاهد حياتي العادية – مواقف الألم بأن أهرب إلى الأمام دائما ، وابحث عما تطيب له النفوس وتتقبله ، راضية عن حياتها ، وعن حياتي كذلك ، ولكن مشاهد الألم تفرض نفسها ، وتعترض سيل الذكريات وكأنها “جنادل” عصية على الإزاحة ، والطريف – فيما تستحضر ذاكرتي من مشاهد الألم – أنها تخلط بين المسموع والمشاهد ، بين الشاخص الراهن ، والذي انطوى زمانه وتحول إلى ذكرى ، غير أنها تبقى ذكرى أليمة ، تستعيدها النفس بكل ما تحمل من مرارة كلما عنت مناسبة .
أذكر مشهداً من مشاهد الطفولة الباكرة ، رأيته في “مندرة” بيتنا ، وكانت أمي تحاول أن تصلح بين زوج من أقاربها ، وبين امرأته التي تزوج عليها ، واحضر لداره “ضرة” ، وكان هذا الزوج مصمما على أن يطلق تلك العجوز القديمة ، وكانت تلك العجوز ذاتها تستميت في تجنب الطلاق ، لأنها لا تجد مكانا تأوي إليه لو أنه طلقها . كانت الضرة حاضرة في المشهد ، فقال الزوج (الجبار) إنه لن يتنازل عن حق التطليق ، ويسمح لزوجته الأولى بالبقاء في البيت إلا إذا حملت “شبشب” ضرتها على رأسها !! وقبل أن تستنكر أمي هذا الشرط الفظ ، كانت المرأة العجوز قد “هجمت” على قدم ضرتها الشابة الجميلة وانتزعت فردة من شبشبها ، فوضعتها على رأسها ، وهي تنظر إلى ذلك الرجل الذي سحق إنسانيتها بعين جامدة !!
هل يمكنني أن أنسى هذا المشهد ؟ هل يمكنني أن أتصور مدى معاناة النساء في مثل هذه المواقف والحالات ؟!
أما ما يتعلق بي خاصة فأذكر أنه بعد وفاة أبي انقطعت تماما (تقريبا) عن زيارة القرية ، في حالات نادرة أذهب لأزور الأخت الوحيدة الباقية هناك (الحاجة صفية) لبضع ساعات لا أتجاوزها ، ولا أرى – تقريبا- غيرها وأولادها وبعض من يصادفني من كبار العوامر . مضت سنين لا أدري مداها : طويلة أو قصيرة ، لم أتذكر أصدقاء أبي ، ولم أزر أحداً منهم ، ولم أقدم “هدية” – لن تؤثر على وضعي المالي ، ولكن كانت تطيب بها النفس، لم أفطن ، فلم أفعل ، والآن أتذكر كيف كان محمد – صلى الله عليه وسلم – يكرم أصدقاء السيدة خديجة (أم المؤمنين) ويحسن لقاءهم ، ويقدم لهم رموز محبة في شكل هدايا صغيرة تطيب لها نفوسهم . كيف غاب عني هذا المعنى النبيل ، كيف ضاعت الأسوة في هذه المكرمة النبوية الجليلة؟