شجون .. – 4 يناير 2018

شجون .. – 4 يناير 2018

شجـــون ..
ولا يزال الحديث تتداعى موجاته ، أو شجونه ، عن أولئك الذين كان باستطاعتنا (استطاعتي) أن أقترب منهم أكثر ، وأن أبدي نحوهم وداً أصفى ، وأن تكون عاطفتي تجاههم أنقى ، فمن المؤسف أنني لم أفعل ما ينبغي في زمانه وفي سياقه ، فلا يبقى إلا استحضار الشجن والندم .
في معجم (لسان العرب) : الشجن : الهم والحزن ، والجمع : أشجان وشجون . والشجن : هوى النفس ، والشجن : الحاجة ، وفي المثل : الحديث ذو شجون : أي فنون وأغراض ، يضرب هذا مثلا : للحديث يستذكر به غيره ، والشٌجنة :عروق الشجر المشتبكة، وبيني وبينه شُجنة: رحمٌ وقرابة مشتبكة . هذه المعاني التي طرحها لسان العرب تعتمد على مأثور الشعر ، وتقرب المعنى ولا تحصره ، فالخبرة الإنسانية لا تزال تنمو وتطور معاني الألفاظ ، ولهذا أميل إلى تعريف الشجن بأنه : الحزن الرقيق الشفيف الذي تستدعيه الذكريات أو تثيره المشاهدات .
كنا ندعوه حال الرضا (زغلول) وعند الغضب لفعل ارتكبه (زغدول) – وربما كانت هذه إحدى عادات الريف !! اسمه الحقيقي (عبد المنعم) وهو ابن عمتي زينب ، التي توفيت ثالث يوم بعد ولادته ، فأخذته أمي –زوجة خاله- وقامت على تربيته ، ونشأ عبد المنعم بيننا، وكان يصغرني بنحو عامين أو أكثر قليلا ، وكنا نعتقد أنه أخ لنا ، وكان عبد المنعم ينادي أمي على أنها أمه ، ويصف أبي بأنه أبوه ، وليس خاله ، وكنا نحن الإخوة نحب عبد المنعم أكثر مما يحب بعضنا بعضا ، وعددناه واحداً منا لا يمكن الاستغناء عنه ، مع أن والده (الحقيقي = عبد المقصود) كانت له أسرة كبيرة أنجبها من عمتي ، كما تزوج بعد وفاتها ، فأنجب عدداً أخر ، وأثرى بملكية الأرض الزراعية حتى أصبح يملك أكبر مساحة ممكنة بالنسبة لأثرياء قريتنا (عشرين فدانا) ، ولكن عبد المنعم الطفل البريء رأى أن أمه زكية ، وأبوه حسن خير من الدنيا وما فيها ، غير أنه جاء يوم وأصبح عبد المنعم أو زغلول في الخامسة أو السادسة ، وطلب أبوه أن يضمه !! فلم تملك أمي غير الإجابة ، ولكن حزنا وقهراً استوليا علينا ، حتى لم نستطع النوم أو تخيل ظهور النهار بدون وجود عبد المنعم بيننا ، والطريف أنه أول ليلة قضاها في بيت أبيه ، وهو في طرف القرية ، صحا مبكراً وفتح الباب خلسة ، وانطلق عائدا إلينا ، وحين طرق الباب مع شروق الشمس لم نصدق أنفسنا ، أن “زغلول” العزيز عاد إلينا !! أمكن تسوية الوضع مع أبيه لعدة أشهر ، استعاده بعدها، فشغلته المدرسة وبدأ يرتبط بإخوته ، وحين يزورنا يسلم على “مرات خاله” ، ويقبل يد خاله ، الذي كان أباه !!
مدة طويلة لم نستطع التخفف من حب عبد المنعم بحيث يوضع في موقعه كابن عمة، مثله مثل بقية إخوته ، ولكن مع الزمن –وآه من فعل الزمن- أصبح عبد المنعم ابن عمتي ليس أكثر . كبر وتخرج في كلية التجارة ، وعين مأمور ضرائب في القاهرة ، وسافرت أنا للعمل بالكويت ، وكونت أسرة هناك ، وذات يوم أطل علينا عبد المنعم بسحنة (السوالم = عائلة أبيه) وطريقتهم في الكلام ، وبدرجة ما ثقل ظلهم ، استقبلته في المطار ، وأخذته إلى بيتي ، وبقي بيننا أياماً حتى دبرت له مكان إقامة ، ولكنه –بعد شهر- فشل في الحصول على عمل ، فرجع إلى عمله بالقاهرة ، ولعلي تنفست بشيء من الراحة ، لأنني بحثت عن الصورة القديمة التي أحببتها ، ونشأت على حبها ، فلم أجد منها شيئا . أوصلته إلى المطار، وودعته بلا مشاركة له في أسفه أنه لم يوفق للحصول على عمل ، لم أحاول مساعدته للحصول عليه .
سافر عبد المنعم ، وتزوج ، وأنجب ثلاثة أولاد ، كانوا لا يزالون في سن الزهور حين رحل عن الدنيا ، لم أُصل عليه ، ولم أشاهد له قبرا ، قرأت الفاتحة على روحه وبيني وبينه آلاف الأميال ، وبيني وبينه جوار البشر ، وجوار الله . بين حين وآخر أتلقى “منعم” في أحضاني فيلتهب حزني ، وتتجدد آلامي أنني في أخريات حياته لم أكن أحبه كما كان ينبغي أن يكون . وهكذا أظل في صحبة الألم .. في صحبة الندم .. في صحبة الشجن !

اترك تعليقاً