الجِدة .. مفسدة !! – 7 يونيو 2018
معزوفة على وتر الحنين
الجِدة … مفسدة !!
هذه قطعة من بيت مشهور لأبي العتاهية ، يجمع فيه أسباب الفساد ، وتمام البيت :
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
ومع كل الاحترام لشاعر الزهد أو التزاهد ، أختصر الثلاثة في الجدة = الثراء ، فالثراء وحده إن لم يكن مؤسسا على رؤية عصامية ، وعمل مقدر ، فإنه وحده كفيل بإفساد حياة الشخص بأن يوهمه بأنه شباب في الثمانين ، وأنه يملك من الزمن ما يتسع للعبث . هذا تحفظ أول .
أما التحفظ الثاني فأستمده من مسرحية سعدالله ونوس :”الملك هو الملك” التي تبدأ بأن تصور ملكاً كان بطلا قومياً يوماً ما ، فظل يحكم أمته في مقابل تلك البطولة التي أصبحت منسية بقية عمره المديد ، وفي رأي سعدالله ونوس – من خلال المسرحية – أن البطولة عملٌ يتجدد ، ويجب أن يقوم عليه برهان حاضرٌ في جميع مراحل العمر ، فلا أظل أدفع ثمن الضربة الجوية ثلاثين سنة من الجمود ، دون بطولة تضيف إلى السابق .
أبدأ من جديد ، وإذا كانت الشخصية السابقة (قرن الخروب) فهذه الشخصية يصدق عليها وصف (الشمعة) فقد كان – مع إنه شرقاوي- مضيء الوجه ، له عينان خضراوان ، وقامة معتدلة ذات ملامح فتوة ، حتى تجاوز الستين . أما مراحل عمره – كما عرفته – في دار العلوم ، فكانت :
بدأ مدرسا متخصصا في الحضارة ، متخرجاً في كمبريدج ، وعاد إلى مصر إبان أزمة عبد الناصر ومحمد نجيب ، فانحاز مع عدد من أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة إلى ما بشر به محمد نجيب من دعوة إلى الديمقراطية ، فكان أن استبعدوا جميعا من وظائف الجامعة ، بدعوى أنهم غير منتجين !! عاش زمنا قاحلاً ، ثم أتيح له العمل في بلد أسيوي إسلامي ، إلى أن حدثت حرب السويس ، فنهض فيها نهضة رائعة ، مدافعاً عن وطنه ، مشيدا ببطولة عبد الناصر ، مما ألحقه بالسفارة المصرية في ذلك البلد الأسيوي ، وبعد سنوات – كما هي العادة – رجع إلى مصر ، وأخذ مكاناً في وزارة التربية ، لم يرض تطلعه القديم إلى الجامعة ، فظل يسعى سراً وعلانية ، وكان رئيس قسم التاريخ لا يريده بدعوى أنه ليس متخصصا في التاريخ ، ولكن – بعد جهود – استطاع أن يعود إلى وضعه الذي طرد منه سابقا ، وما أن استقر في الوظيفة ، وعنده سيارة في لون ماء البحر ، وعنده بنطلونات “ووتر بروف” ، لم نكن سمعنا باسمها ، تتقدمها سوستة رأيناها لأول مرة بديلا للأزرار ، ويملك فيلا صغيرة وأنيقة ، فطلق زوجته ، أم أولاده ، واقترن بأخرى بعد زمن ، وهكذا انطلق في صحبة الجميلات (من كل لون يا باتستا) وكان يقول : ما الذي يعوقني ؟ معي سيارتي وفي جيبي جنيهاتي ، وأملك وقتي ، فلماذا لا أتمتع بحياتي ؟!
كان شغوفا بالتأليف ، فتوقف ، وكان عضواً (مستلحقا) في شلتنا ، التي أطلقنا عليها (جماعة الصعاليك) ، فأهملها ، وأصبح كالنسر يحمل صيده إلى أعالي الجبال ، فغاب عنا ، وفي أخريات حياته أصبح نسيا منسيا ، لولا أن بعض أبنائه أو بعض بناته صادف شهرة واسعة (نسبيا) ، فبدأ يستمد دماءً جديدة ، حافظ من خلالها على إشعال الذبالة الأخيرة من شمعة ، كان في استطاعتها أن تكون أصدق توهجاً .