قال إني عبدالله .. 22 مارس 2018
قال إني عبدالله ..
يحمل اسم جده ، فيفوز بحب أبيه ، ويحمل وجه أمه الجميل ، فيفوز بعاطفتها ، وأملها ، وأبقى منفرداً (لا في العير ، ولا في النفير) مع هذا كنت أحبه رغم تنافر الطباع (ربما كما هو المألوف بين الأخوين المتعاقبين) – كان يحمل عقلا فاعلا ، مؤمناً بالله وبالعمل الجماعي . تفوق في الطب ، فعمل في القصر العيني ، ثم لحق بي إلى الكويت فكان جراح تجميل متميزاً في مستشفى الصُباح ، وحاول رئيسه اليوغسلافي أن يأخذه معه إلى وطنه لمدة عام واحد ليمنحه الدكتوراه في جراحة التجميل ، فلم يأبه للقب ، إذ كان يفكر : كيف يضمن إضاءة مسجد قريتنا ، وكيف يتمكن من إعانة الأسر الفقيرة بتقديم ماكينات التريكو تبرعاً . حاولت معه أن يشتري أرضا ويبني بيتا وعيادة في المعادي بجوار بيتي ، فاشترى نحو عشرين فداناً في صحراء الشرقية لأن “إحياء الموات” أهم من بيت وعيادة ، وإن تكن في المعادي !!
عبدالله أخي صاحب فكرة ومشروع مستشفى ابن سينا – ذلك البرج الرائع في مدخل الدقي ؛ هو مقترح التسمية ، وأول من تبرع ، وأول من اشترى باسمه وباسم زوجته وأولاده ، قدرا لا يستهان به من الأسهم ، ومن أجله اشتركت أنا وزوجتي كذلك ، ومن أجل المستشفى وإنجاح مشروعه حمل أخي (شجاعة) الاستقالة من العمل في الكويت لرعاية مشروعه في القاهرة . فلما تحقق أو كاد ، تكتل عليه “الإخوان” ومن يشبهونهم ، وعزلوه عن المشروع الذي وهب له حياته !! كنت أسأله : لماذا وأنت قريب منهم جداً ، وأنت الوحيد الذي ضحى بوظيفته ليرعى المشروع ؟ قال: لأنني لست منظماً في شُعبهم ، ولأنني لم أُسجن مثلهم !!
كان خير من يقاوم خيبة الأمل بالبحث عن عمل بديل ، والاستغراق فيه ، ولهذا أصبح “المشوار” إلى “أرض بلبيس” واجبا أسبوعيا ، مما أثر على صحته ، وأجهز على سيارته ، ولكنه كان يتحدث باحترام عميق عن من يمسك بفسيلة ، ويرى علامات القيامة!! حتى إذا رحل عن الدنيا ، استولى البدو على تلك الأرض التي بذل فيها عرقه وماله ، مما اضطر أبناءه إلى بيعها لهؤلاء البدو أنفسهم بنصف ثمنها !!
أنجب عبدالله أخي ثمانية عباقرة ، وكان يقول : لماذا أحدد النسل ، وأنا أعرف أنهم سيكونون من النوابغ ، وفي استطاعتي أن أعلمهم ، وانفق عليهم ؟! إنما يستحي من الإنجاب أولئك الذين لا يدركون شيئا من أمر الدنيا أو الآخرة ، ولا يعرفون كيف يربون أنفسهم ، فضلا عن أبنائهم .
لا أستطيع أن أحصي من عالجهم عبدالله بنفسه ، وفي عيادته بالمجان ، ولا عدد من كان طريقهم للعلاج بالقصر العيني ، ولا عدد أولئك الذين قدم لهم ماكينات التريكو مجانا . لكنه – أبداً – لم يأبه بتحريضي له على أن يعمل في اتجاه الحصول على لقب علمي ، بل لعله كان يسخر من ذلك (ومني ضمنا) ومع هذا كان شفيقا جداً عليَّ في الأزمات خاصة ، وعلى أولادي بالمطلق ، فكان هذا أشبه برمانة الميزان التي تعدل بين أخوين مختلفين في الطبائع والتوجهات .
في إجرائه لإحدى جراحات التجميل أصاب المشرط طرف إصبعه ، فتسلل إليه فيرس سي ، فأدرك أن الرحيل قد اقترب . زرته في القصر العيني قبل رحيله بيوم واحد، كانت أزرار جاكتة البيجامة لا تأخذ وضعها ، ولأنه طبيب ، ولأن زوجته طبيبة ، ولأن له ابنتان طبيبتان ، فقد أدرك الجميع أن الرحيل قد أزف !! نظر إليّ وقال : أنا أعرف ما يجري ، وأنا غير خائف !!
فيا لها من ثقة رائعة ، تضيء قلب المؤمن في أشد ساعاته خوفا ..