أيـــام المــدرسة – 6 يوليو 2017
أيـــام المــدرسة
كانت أمي تأخذ مكانها على المصطبة وحولها بعض بناتها ، حين أقبل محمد الشهد ، وخاطبها قائلا : ” يا عمة ( مثلما يناديها كل أهل القرية ) محمد مطلوب للمدرسة ” كنت قريبا ، سمعت اسمي ، لم يتغير شيء ، ولكن مع انتهاء جني القطن ، فُتحت المدرسة ، وأصبحت تلميذا بمدرسة تمي الأمديد الإلزامية – واستمر هذا خمس سنوات متتابعة .
بدرجة ما كان المعلمون يؤثرونني لأنهم يعرفون أبي ، وكذلك كان الشيخ طه الناظر ، وكان أحد اثنين من المعلمين يرتديان الجبة والقفطان . أما البقية فهم من الأفندية . في السنة الأولى علمنا الناظر كتابة حروف الهجاء بتعاقبها ، واحضر تلاميذ الفرقة الرابعة ليكتبوها لنا – نحن الجدد – بخط كبير على ورق ملون ، فرحنا به جداً ، وتشوقنا لأن نكون في السنوات الأخيرة لنقوم بالشيء نفسه ( للعيال الجدد ) ، كان الناظر يرسلني إلى المخزن لإحضار كتب القراءة ، ولعدة مرات أعود من المخزن حاملا نسخة واحدة ، إذ كنت أعتقد أن ” الكتب ” تعني كتابا واحداً ، أما الجمع فهو ” كُتبات ” !! أما الأناشيد فكان يلقيها علينا ، ونردد وراءه ( جماعيا ) مصطفى أفندي السيد ، وهو كهل قصير ممتلئ أحمر الوجه . كان يتحرك ذهابا وعودة في الفراغ أمام المقاعد ، وهو ينشد ونحن نردد وراءه :
غنمي غنمي .. ما أجملهــــا .. في مــوقفها .. تحت الشجـــرة
سيــري سيــري .. نحو المرعى .. واجري بين الأرض الخضـــرا
ذئب يعــــوي .. فـــــي وادينـــا .. أسرع أســــــرع .. يا راعينـــا
هرب الذئـب القاســــــــي منا .. إن لم تـــــــــدركنا .. أوذينـــــا
كان مصطفى أفندي يلقي هذه العبارات الساذجة بثقة وامتلاء وتؤده منغمة تسحرنا حقا ، فنتبعه بحماسة زائدة ، وبنفس الإيقاع ، وإن كانت أصواتنا المسرسعة لا تستطيع أن تصل إلى حالة الإشباع الصوتي التي تملكها حنجرته الواثقة !
كان الناظر – الشيخ طه – يضع على عينيه نظارة بإطار ذهبي زجاجها رقيق جدا ، وكأنه قشر بيضة !! ولكنك لا تستطيع أن تعرف أين تتجه نظراته ، وفي السنة الرابعة ثم الخامسة كان يأتي يوميا إلى فصلنا مع أنه لا يدرسنا ، يقف في الباب ، مستندا إليه بجذعه ، ويلقي نظرة تستعرض الفصل ، ثم ينادي بصوت جهوري : مسلم سلمان سالم ، فيفز من بيننا – في الصفوف الأخيرة – صبي طويل ، غزير الشعر – بدرجة ما – أدعش ، ويرد بصوت مرتفع : أفندي . وهنا ينصرف حضرة الناظر دون تعقيب ! يتكرر هذا يوميا أو شبه يومي ، ولعلي للآن أتساءل : ما سر هذا الأمر المتكرر ؟ هل كان يتابع الولد بوصية من أهله حتى لا يهرب من المدرسة ؟ أم أن الناظر كان يتذوق البناء الصوتي لهذا الاسم البدوي؟ فيلذ له أن يستخدمه كلما عنّ له ؟ كان مسلم سلمان سالم – زميلنا – من عرب المساعيد ، وهم بدو نزلوا بجوار بلدتنا ، واشتروا قطعا صغيرة من الأراضي الزراعية ، وبنوا بيوتا من الطين ، فلم يعرفوا معيشة الخيام التي كان يقطنها أعراب آخرون أكثر قربا من مساكن القرية ، ويطلق عليهم : عرب دَحْوَرْ ، وأكثرهم رعاة ماعز ، وبعضهم يتسول في القرية ، وأشهر متسوليهم من يدعى ” قلوم ” التي عرفت بعد أن سكنت الكويت أن أصلها ” غلوم ” وإنما يقلبون الغين قافا في النطق ، وغلوم هو الغلام ، اسم إيراني واسع الانتشار في الخليج بين الشيعة عادة أو غالبا ، كما في إيران .
أما ختام علاقتي بالناظر الشيخ طه ، فكنت وأنا في السنة الخامسة ، وأشبه بألفة المدرسة – أحمل مسطرة طويلة بين كتبي ، فرآني الناظر أثناء خروج المدرسة ، فنادى : تعال يا ولز ( يا ولد ) وأدركت أنني سأعاقب بسبب هذه المسطرة الطويلة ، فتسربت بسرعة بين زحام الخارجين وأنا أقول له في وجهه : إيه الاستبداد ده !! كانت هذه المفردة الجديدة ( الاستبداد ) قد وصلت قريتنا عن طريق مظاهرات المنصورة ضد الإنجليز ، تلك المظاهرات التي حاولت أن اصنع مثلها في تمي ، واضطررت أن أرسم صورة الملك ، وصورة العلم المصري الأخضر بنفسي ، على أوراق كراسة الرسم .